أنت يا بني قد رأيت الشيخ محمد عبده وعرفته؛ فرحم الله هذا الرجل ما كان أَعجبَ شأنَه! لكأنه والله سحابة مطوية على صاعقة. ولو قلتُ إنه قد كان بين قلبه ورأسه طريقٌ لبعض الملائكة لأشبه أن يكون هذا قولاً
كان يزورني أحياناً فأراني مرغماً على أن أقدم له مجلسين أحدهما قلبي. وكان له وجه يأمر أمراً إذ لا تراه إلا شعرت به يرفعك إلى حقيقة سامية
رجل نَبتَ على أعراقٍ فيها إبداعُ المبدع العظيم الذي هيأه لرسالته، فعواطفه كالعطر في شجرة العطر الشَّذِيَّة، وشمائله كجمال السماء في زرقة السماء الصافية، وعظمته كروعة البحر في منظر البحر الصاخب. وكثيراً ما كان يتعجب من هذا أستاذه السيد جمال الدين الأفغاني فيسأله مندهشاً: بالله قل لي: ابن أي ملك أنت؟
لم يكن ابن ملك ولا ابن أمير، ولكنه ابن القوات الروحية العاملة في هذا الكون؛ فهي أعدته، وهى ألهمته، وهى أنطقته، وهى أخرجته في قومه إعلاناً غير كتمان، ومُصَارحةً غير مخادعة، وهى جعلت فيه أسدية الأسد، وهى ألقت في كلامه تلك الشهوة الروحية التي تذاق وتُحَب كالحلاوة في الحلوى
هذا هو العالم الديني؛ لابد أن يكون ابن القوات الروحية لا ابن الكتب وحدها، ولابد أن يخرج بعمله إلى الدنيا لا أن يدخل الدنيا تحت سقف الجامع
وأنا فما ينقضي عجبي من هؤلاء العلماء الذين هم بقايا تتضاءل بجانب الأصل. يبحثون في سنن النبي صلى الله عليه وسلم كيف كان يأكل ويشرب ويلبس ويمشي ويتحدث، كأنهم من الدنيا في قانون المائدة وآداب الولائم ورسوم المجتمعات. أما تلك الحقيقة الكبرى وهى كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يقاتل ويحارب لهداية الخلق، وكيف كان يسمو على الدنيا وشهواتها، وكيف كان بطباعة القوية الصريحة تعديلاً فعالاً في هذه الإنسانية للنواميس الجائرة، وكيف كان يحمل الفقر ليكسر به شِرَّةَ النواميس الاقتصادية التي تقضى بجعل الأخلاق أثراً من آثار السعة والضيق فتخرج من الغنيّ متعفّفاً ومن الفقير لصاً، وكيف استطاع صلى الله علي وسلم بفقره السامي أن يحول معنى الغنى في نفوس أصحابه فيجعله ما استغنى عنه الإنسان من شهوات الدنيا ما لا نال منها؛ أما هذا ونحوه من حقائق النبوة العاملة في تنظيم الحياة فقد أهملوه، إذ هو لا يوجد في الكتب وشروحها وحواشيها