مستدارها أطباق عديدة لا يأخذها الحصر، فيها أنواع شتى من الطعام. . . كالدجاج والحضر والعصيدة والولائق المختلفة، وهي من دقيق وسمن ولبن، وقد عرفوا أننا لن نستطيع مجاراتهم، فأعدوا لنا أطباقاً وملاعق وسكاكين وأشواكا، فجعلنا نحن نأكل على طريقتنا، أي أن نأخذ ما نشتهي في أطباقنا. أما هم فأكلوا على الطريقة البدوية الصرف، وهي أن يتناول الواجد قبضة من الأرز ويطوي عليها أصابعه ويضغطها حتى تصير كالكفتة، وبعد أن يفتلها على هذا النحو يقذف بها في فمه. وهذا يبدو هيناً سهلاً، ولكن المصيبة أن الطعام يكون كالنار فيحرق الكف، فكيف بالفم واللسان؟ أما اللحم فيهبر منه ما تستطيع أصابعه قبل أن تقطعه أو تمزقه ويرمي به في فمه، وما يرمي في الحقيقة إلا جمراً مضطرماً. وعلى ذكر الجمر أقول إن للعرب - أو على الأصح للبدو - طريقة عجيبة في علاج الجروح، وقد جربتها فأنا أتكلم عن خبرة ويقين، ذلك أن راحتي أصابتها النار، فجعلت أوحوح وأنفخ فيها، ولا أدري ما أصنع لتسكين الألم على الأقل، فصاح أحد النجديين الذين كانوا حاضرين هناك: - هذا كان في الحجاز:(ملح. . . ملح. . .) فجاءوه بقليل من الملح الخشن فمد به يده إلي وقال (خذ قبضة)(فتناولت منه بيدي السليمة وأنا أضحك في سري وأقول لعله يظن أن الحروق يفيد فيها السحر) فصاح بي (بيدك المحروقة)، ففهمت وأخذت قبضة بيدي المحروقة فقال (أطو عليها أصابعك) ففعلت فقال (أبق هكذا) فظللت قابضاً على الملح الخشن دقائق ثم نظر في وجهي وقال: (استرحت الآن. . زال الألم. .) ففتحت كفي وأنا أبتسم ولا أكاد أصدق، فما كنت أشعر بأي ألم ولا رأيت أي أثر للحرق! فما قول الأطباء في هذا؟ وليكن رأيهم ما يكون فأني أنا لا أنوي أن أداوي الحروق التي تصيبني - وعسى ألا يصيبني شيء - إلا بالملح. . .
وفي لبنان أنقذتني فتاة لا أعرفها من هلاك محقق، وهذه الفتاة من أعاجيب الخلق، فإن لعينها نظرة تنيم الحية - كما عرفت بالتجربة المرعبة - وأنا قوي النظرة حادها وفي وسعي أن أحدق في قرص الشمس، ولكني لم أستطع أن أحدق في وجه هذه الفتاة العجيبة. وكنت كلما وقعت عيني على عينها لا أزال أطرف ثم لا أجد بداً من تحويل عيني إلى ناحية أخرى. وكنا قد لقيناها في الصباح ونحن نصعد في جبل في رأسه ينبوع أردت أن أرى الموضع الذي يتفجر منه ماؤه. وكانت تحمل جرة فيها من ماء هذه العين، وكنا نخاف