رصاصات طرحته على الأرض يتخبط في دمه؛ أطلقها من مسدس كانت تحمله يد لم تخنها قواها، يقلبه بقلب كأنه قد من الحديد، فأنفذ حشوها فيه كما ينفذ الجلاد حكم القضاء في المنكودين، ولكن مع الأسف لم يكن حول الفقيد يد شهم مخلص مقدام كيد أحمد البحراوي التي أنقذت سعادة حكمدار العاصمة من الرصاص الذي صوب إليه، ولذلك وجدت رصاصات ذلك الفتى سبيلاً إلى جسم رئيس الوزارة)
بل استمع إليه وهو يختتم هذه المرافعة بتوجيه الخطاب إلى المتهم كيف يطلق العنان للعاطفة دون أن يختل ميزان أسلوبه السهل الممتنع:
(أما أنت أيها المتهم: فقد همت بحب بلادك حتى أنساك ذلك الهيام كل شيء حولك. أنساك واجباً مقدساً هو الرأفة بأختك الصغيرة وأمك الحزينة فتركتهما يبكيان هذا الشباب الغض. تركتهما يتقلبان على جمر الغضا. تركتهما يقلبان الطرف حولهما فلا يجدان غير منزل معفر غاب عنه عائله. تركتهما على ألا تعود إليهما وأنت تعلم أنهما لا تطيقان صبراً على فراقك لحظة واحدة فأنت أملهما ورجاؤهما. دفعك حب بلادك إلى نسيان هذا الواجب وحجب عنك كل شيء غير وطنك وأمتك وأخيك فلم تعد تفكر في تلك الوالدة اليائسة وهذه الزهرة اليانعة ولا فيما سينزل بهما من الحزن والشقاء بسبب ما أقدمت عليه. ونسيت كل أملك في هذه الحياة وقلت إن السعادة في حب الوطن وخدمة البلاد، واعتقدت الوسيلة الوحيدة للقيام بهذه الخدمة هي تضحية حياتك: أي أعز شيء لديك ولدى أختك ووالدتك فأقدمت على ما أقدمت راضياً بالموت لا مكرهاً ولا حباً في الظهور. أقدمت وأنت عالم أن أقل ما يصيبك هو فقدان حريتك؛ ففي سبيل حرية أمتك بعت حريتك بثمن غال
فاعلم إذن أيها الشاب أنه إذا تشدد معك قضاتك ولا أخالهم إلا راحميك، فذلك لأنهم خدمة القانون، وهو هذا السلاح المسلول فوق رأس العدالة والحرية. وإذا لم ينصفوك ولا أظنهم إلا منصفيك، فقد أنصفك ذلك العالم الذي يرى أنك لم ترتكب ما ارتكبته بنية الأجرام، ولكن باعتقاد أنك تخدم بلادك. وسواء وافق اعتقادك الحقيقة أو خالفها، فتلك مسألة سيحكم التاريخ فيها وإن هنالك حقيقة عرفها قضاتك وشهد بها الناس، وهي أنك لست مجرماً سفاكا للدماء ولا فوضياً من مبادئه الفتك ببني جنسه ولا متعصباً دينياً، وإنما أنت مغرم ببلدك هائم بوطنك، فليكن مصيرك أعماق السجن أو جدران المستشفى، فإن صورتك في البعد