للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تجاوز القصد

كثيراً ما عيرنا - وأخشى أن نكون قد عيرنا بحق - بأننا نجاوز إذا جلسنا للكتابة أو قمنا للكلام الغرض الذي نتوخاه بأحدهما، وأن اللغة التي نستعملها في عصر اللاسلكي أو الكهرباء ما تزال تغشاها المحسنات اللفظية وتغمرها المترادفات ويفسدها الحشو ويرهقها استطراد يمكن التخفيف من كثير منه. فأغلب الكتاب إذا ذكر الظلم ألحق به الاستبداد، وإذا تكلم عن الرحمة أردفها بالشفقة والحنان. وليس الذنب في هذا على اللغة العربية بل على تقاليد سيئة وجهل بمقتضيات العصر. إن لغتنا موسيقية بلا مراء ولكن بإعرابها. وهي غنية غاية الغنى بأسمائها وأفعالها ونعوتها. ولكن هذه الثروة لم تجمع للزينة فحسب، ولم تدخر في بطون المعاجم لكي يتزن بها الروي وتستقيم القافية ويحسن السجع، وإنما لتكون منها وسائل لأداء معان مختلفة وان تقاربت. وأول واجب على الكاتب في هذا العصر أن يستعمل كل لفظ فيما أعد له من الأصل؛ فيعرف مثلاً متى ينعت صاحبه بالإقدام ومتى يسميه شجاعاً ومتى يصفه بالجرأة. وبعبارة أخرى نحن أحوج ما نكون اليوم إلى فقه صحيح دقيق للغة العربية نعرف منه متى نستعمل لفظاً معيناً في معنى معين. وهذا إذا تم استتبع حتما سير قلم الكاتب ولسان المتكلم في سبل مرسومة وطرق معبدة، فلا يكتب ولا يقول إلا بقدر حاجة الموضوع دون استطراد يحاول به تمكين المعنى في نفس القارئ أو سامع يخشى أن يفوته القصد

على أنه من الإنصاف أن نقرر هنا أن لغة الجدل الفقهي في مصر قد قطعت شوطاً بعيداً فيما نتمناه لأسلوب الكتابة على وجه العموم

وأول مثل يحضرني أسلوب أستاذي طيب الله ثراه المرحوم أحمد بك لطفي، فقد كانت لغته مرآة مصقولة لفكره الرائق المرتب: ألفاظ سهلة مختارة، وجمل على قدر حاجة الكلام لا أقل ولا أكثر لا تستطيع حذف عبارة منها حتى يختل المعنى وتضيع الفائدة

أنظر إليه يترافع عن الورداني في قضية اهتزت لها جوانب القطر كيف يروي وقائعها في بساطة وسهولة توطئة لبحثه القانوني:

(نزل رئيس الوزارة المصرية يوم الحادث من ديوانه يحيط به كعادته رجال الحكومة حتى بلغوا به سلم نظارة الحقانية ولم يكد يودع مشيعيه حتى ابتدره هذا الفتى فأفرغ فيه عدة

<<  <  ج:
ص:  >  >>