فجأة بمحصولك العلمي إلى محيط يريد أن يفهم منك ما فهمته ويأخذ منك ما أخذته، وليس سبيل للتفاهم مع هذا المحيط إلا لغة قد يكون معدنها ذهباً ولكنه ذهب ما يزال تبراً مخلوطاً بأتربة تراكمت منذ أجيال. فأنت مضطر إلى تطهيره من كل عنصر زائف، ثم عليك بعد ذلك صهره في بوتقة العصر ثم صقله ثم ضربه نقوداً من أعيرة وفئات مختلفة. فإذا ما استقام لك هذا كله لزم أن يجرب الناس عملتك هذه الجديدة وأن يتداولوها زمناً قبل أن تستقر نظاماً مألوفاً معمولاً به
ليس مركز المتكلم أو الكاتب باللغة العربية إذن سهلاً ميسوراً في هذا العصر. اللهم إلا أن يقول شعراً يحتذي فيه المتنبي، أو يكتب نثراً ينسج فيه على منوال عبد الحميد الكاتب أو ابن المقفع. أما أن يعرض بقلمه لشيء من مختلف العلوم والفنون الحديثة فهو أعزل إلا من العزم الذي تبعثه الصعاب، فقير إلا من عناصر الثروة المخبوءة في لغة مجيدة تتطلب كثيراً من الجهد في استكشافها ثم مثابرة وصبراً لإقرار ما يكتشف وإحلاله محله من نظام مقبول
ولكن أيمكن حصر هذه الصعوبات ومعالجتها؟
ليس في هذه العجالة متسع للخوض في موضع قلنا ونكرر إنه خارج اختصاصنا وفوق مقدورنا. ولكن ما نراه في عالم الحقوق يجيز لنا أن نعتقد أنه ليس في اللغة العربية أدواء أصيلة تمنعها من أن تأخذ مكانها تحت الشمس كلغة عصرية تضرب بسهم في مختلف العلوم والفنون. فقد سبق لها أن دعيت إلى مثل ما تدعى إليه اليوم وهي بعد أقرب إلى البداوة منها إلى استقرار الحضارة، فوثبت إلى غايتها العلمية وثبة الجواد الكريم. ودرس العرب حضارة الإغريق وفلسفتهم وطبهم بالعربية وحلوا محل الرومان في حمل مشكاة الحضارة قروناً يؤلفون في كل علم وفن بل ويزيدون في ثروة العالم العلمية بما استنبطوا من معارف جديدة. فهل تعجز العربية ولها هذه السابقة المجيدة وذلك التراث الباهر أن تصل فجرها الجديد المتألق بمسائها الباهر؟ إن لنا أن نأمل بل لنا أن نطمئن إلى غد سعيد أخذاً بالقياس
ولكن لنعد إلى ما كنا فيه ولنتحدث قليلاً عن صعوبات الحاضر فقد يتعين هنا التنويه باثنتين: