النظرية، نظرية التوليد من غير أم وأب، فيدهشك هذا القول من فيلسوف إسلامي ويغضبك خصوصا إذا كنت من أصحاب الإيمان الحار، ويأخذ بك ابن الطفيل في منعرج هذا المذهب الوعر الذي يصعب علينا حله واتباعه، ويستطرد في كيفية تخمر الطينة تحت أشعة الشمس وعلوق الروح بها، فيلذك الاستطراد ولا يعجبك الأِعتقاد، والحق يقال أن هذا المذهب الطبيعي الذي يبني مبدأ الخلق والتكوين على الصدف والتصادف والذي يعتنقه الكثيرون في عصرنا (وما أكثر المذاهب والآراء في هذا العصر) غير مبني على أساس متين ولا براهين جلية بحيث تقتلع من صدرك الإيمان بصحته. فالمذاهب الفلسفية، الأقوال فيها كثيرة ومختلفة، وليس هناك دستور واحد في البحث تتمشى عليه، وحقيقة واحدة تتفق عليها. ففي المسألة الواحدة تجد قولين أو ثلاثة أو أربعة والإنسان عندما يكون مترددا في مسألة ما، تكثر تعاليله وحدسياته. فابن الطفيل مثلا لا يجزم بصحة هذا المبدأ الطبيعي كما هي عادته، فيأتيك بقول آخر أعم وأشهر، ولكنه ليس بنظرية بل تعليل ثانوي لكيفية وجود حي بن يقظان في جزيرة من جزائر الهند تحت خط الاستواء، فقد اختلفوا في وجود هذا الشخص في هذه الجزيرة المنقطعة عن السكان المقفرة من بنى الإنسان. فيقولون أن حياً كان إبناً غير شرعي وأن أمه أخت ملك قد وضعته في صندوق وقذفت به في اليم، فقاده المجرى المائي إلى هذه الجزيرة (الاستوائية) وهذا القول أقرب وأخف وطأة على القارئ من الأول، إذ يعرف أن موسى أيضاً قد قذف به في اليم، ولديه على ذلك نص وهو القرآن.
قد فرغنا من استخراج هذه النظرية وسللناها من طيات هذا السفر الجميل. فاتبعني أيها القارئ الكريم لنستطلع بعد ذلك خبر ما آلت إليه حال هذا الطفل البائس الذي سيكون له فيما بعد شأن يذكر. رمت به الأمواج إلى شاطئ جزيرة تحت خط الأستواء، وكم يكون جزعك على هذا الطفل عندما تعلم أن هذه الجزيرة خالية من السكان. ترى من يغذي هذا الطفل، ومن يشفق عليه ويشمله بحنانه، إذ لا إنسان يعطف عليه ويحسن رعايته ويوفر له أسباب الحياة؛ ولكن كم يكون فرحك عظيماً عندما ترى أن ظبية من بنى الحيوان قد رامت به، ووجدت فيه تسلية وعوضا عن ابنها المفقود، فغدت تغذيه بلبانها وتشمله بحنانها، حتى درج وأصبح قادرا على المشي والعدو مع أمه في البرية، وما أن صار على رأس أسبوع