من عمره أي سبع سنين، حتى صار يرافق أمه في غزواتها، يناشدها بأنغامها وتناشده، فإذا سمع تغريدة عندليب حاول تقليده، وإذا سمع فحيح أفعى أو زئير أسد لم يحاول الابتعاد ولم يوجس خيفة، وتكررت هذه الأصوات على سمعه فوعاها، وغدا يرددها فيجيدها. وهنا أيها القارئ الكريم تعرض لنا نظرية غامضة ولكنها جميلة ومشوقة، فلنتئد في درسها وتحليلها قليلا. النظرية هي نظرية النطق والكلام. أخلق الإنسان متكلماً لغة أجاد فهمها منذ البدء أم علمه الله إياها؟ وإذا كان ذلك فلماذا لم تتفق البشر عليها؟ وما تعليل كثرة اللغات واللهجات التي نسمعها وما هو علة هذا الاختلاف؟ كل ذلك، أظن، جدير باسترعاء خاطرك وانتباهك، وهو يوقظ في نفسك حب الاطلاع والتعليل، وتريد أن تفكر وأن تجد تحليلا فلا تجد، فيؤول بك التفكير إلى حدس بحدس. وتخمين بتخمين لا طائل تحتهما ولا جدوى. فابن الطفيل لا يبدي لنا إلا قولا واحدا في كيفية نشوء اللغة عند الإنسان وهو ليس من أرباب الوحي والإلهام الذين يقولون أن الله خلق الكلام وخلق في الإنسان المقدرة والقوة على نطقه. كلا ليس ابن الطفيل في شيء من هذا، وهو على مذهب البعض من المحدثين في القرن التاسع عشر؛ فهؤلاء يعللون نشوء اللغة أي النطق بأن الإنسان في طوره الهمجي طور الغريزة الحيواني يتلقى أصوات الحيوان ويقلدها في جرسها ونغمتها، ويضعون لذلك مقاطع طبيعية دارت على ألسنة البشر أجمع في طور وحشيتهم، توجد في جميع اللغات الحية وهي إد، آر، آد. . . وما أشبه ذلك، على أن الاختلاف الذي نراه ناتج عن سنن التباعد والتقارب في أخلاق البشر وأميالهم الطبيعية.
فأنت ترى أن ابن الطفيل من هذا الرأي وأن (حيا) قلّد الحيوانات في أصواتها ولم يجد التكلم في بدء أمره بدليل أن ابن الطفيل يتيح لبطله حي مصادقة أسال فيعلمه الكلام وأمور الدين. فحياة حي هي إذن نفس حياة البشر في طور وحشيتهم وهمجيتهم. ولكن ابن الطفيل لا يقف عند هذا الحد، ولا يريد أن يسرح بطله مع الحيوانات بل يرقى به إلى مستوى فكري سام تقصر عنه المدارك، ويريه أشياء لم تقع على سمع أحد (ولا خطرت على قلب بشر). فأنه بعد أن يعلمه الأصوات يريد أنبعلمه الطب كما تعلمه كلية الطب في بيروت لتلامذتها، وأن يطلعه على علم التشريح وما فيه من سر دفين. وماتت الظبية أمه، وقعد للبكاء عليها ولزم الحزن أياما يناديها فلا تعي ولا تجيب، ويندبها فلا تأبه لتحرقه وبكائه