وأراد ان يعرف موطن الآفة في جسد أمه محاولا إنقاذها مما هي فيه، وبطريق النظر والاستدلال يفتح جوفها ويتوصل إلى القلب المركز الرئيسي لجميع الأعضاء، ومنه إلى الدماغ فلم يجد بها آفة حتى إذا ما انتهى من البحث والاستقصاء أتى على علم التشريح بكامله، وتحصل له من ذلك: إن ما يحرك الجسد إنما هو بخار يتولد فيالتجويفات القلبية فيصعد منها إلى الدماغ، وهذا بدوره يحرك الأعضاء. وهذا ما قال به ديكارت معبرا عن هذا البخار بالأرواح الحيوانية. قد يدهشك مثل هذا البحث المنظم الذي يقوده حي بن يقظان، وهذا الاستدلال الثاقب، ويضؤل في نفسك شخص ابن الطفيل القصصي ليتجسم لك في شخص حي الطبيب الحاذق والمشرح اللبق؛ والحق يقال أن ابن الطفيل بعد أن يرتفع بخياله يكبو به جواد هذا الخيال ليحطه إلى الأرض. لذلك كان الفيلسوف الطبيب، ولم يكن الفنانالقصصي بالمعنى الواسع لهذه الكلمة. فمن الغريب أن يكون حي قداستكشف مثل هذه النظريات والتطبيقات العملية في مثل هذه المدةالوجيزة، فإننا نرى فكرا ساميا يتوصل بمحض فكره إلى الحقيقة، لا فكراً وحشياً غريزياً يليقبمثل حي؛ ولكن هي قصة أقرب إلى:(الاوتوبيا) منها إلى الحقيقة الملموسة. ولا نجزم بأنها نظرية، ولا نريد أن نناقشها بل نترك ابن الطفيل وتلميذه يعلمه ما يشاء وكيف يشاء، على أننا نستشف من خلال البحث عن كيفية تعلم حي بن يقظان علىنظرية النشوء والارتقاء في العناصر الطبيعية وفي مدارك البشر، وكيف أنها تنتقل من الملموس إلى المحسوس إلى المعقول، وكيف أن الحواس تتصل بالأشياء الخارجية فتؤثر هذه فيها وتنفعل عنها فتحولها (أي الحواس) إلى دائرة التفكير والتفهم فتصوغ ما أحست بقالب السبب والقانون.
ويفقد حي أمه ويخرج إلى معترك الحياة وحيداً طريداً فكل شيء في قطر وجوده يستلفت نظره ويسترعي انتباهه، فهو كآلة واعية (إذا كانت آلة تعي) وضعت في مكان ما تلتقط كل ما أوحي لها من حيث ألقي أو أوحي. فتسجل حركات الأشياء وتنفعل عنها، وهل الإنسان (كما عرفه بعض علماء النفس) الا مجموعة من المؤثرات الداخلية والخارجية تجمعت فشكلت هذه النفس التي تعي وهذه النفس التي تفهم وتتذكر؟
ويستكشف (حي) النظريات ويستدل بمحض فكره السامي وثاقب ذهنه على وجود (واجب الوجود) وهذه النظرية هي محور القصة بكاملها وهي التي شغلت جميع فلاسفة الإسلام.