بل نترك الخوض فيها إلى أولياء الله العارفين، تعالى الله عما يصفون.
فأبن الطفيل إذا يفضل الوصول إلى الله عن طريق البحث العلمي النظري، ويمثل لنا هذه النظرية ويدافع عنها في شخص (حي) وأنه استطاع بنظره وفكره السامي اكتشاف الحق تعالى، بدليل أن ابن الطفيل يدخل في القصة شخص آخر (أسال) وهو العقل المهتدي إلى الله عن طريق الدين والاجتهاد، فيعجزه عن الوصول إلى المقام الذي توصل إليه حي (وطلب حي مقامه الجليل فبلغه واقتدى به أسال حتى اقترب منه أو كاد) فلا ريب بعد ذلك في أن فيلسوف الأندلس يفضل الطريق النظرية على الطريق الدينية؛ وأنه ما استطاع أن ينجو من ورطة هذا القول الذي كثيراً ما جر على آخرين التعذيب والتنكيل، الا بواسطة هذا الوشاح القصصي الذي يلقيه على النظريات والمذاهب الفلسفية في رسالته النفيسة.
على أن ابن الطفيل لم يخل من اللوم، وأرباب الدين يؤاخذونه على أربعة:
١ - بإهماله أمر النعمة وسقوط الطبيعة البشرية. ٢ - بتفضيله المعرفة بالعقل على المعرفة بالإيمان. ٣ - باعتقاده ان الإنسان قادر على رؤية الله عز وجل في الدنيا. ٤ - بأقواله المنتجة مذهب تأليه الكل أو البانتيسم الشمولي.
وما كان أحد ليخلو من عتب أهل الدين ولومهم. ومدار القصة بكاملها هي أن معرفة الله الفلسفية أسمى من المعرفة الدينية , وهذا ما لاقى في سبيله ابن رشد وإضرابه من التعذيب والاضطهاد ما لاقى. هذه لمحة (ربما تكون سطحية في قصة حي بن يقظان) عن النظريات والمذاهب الفلسفية التي تضمنتها، وربما عدنا إلى الموضوع في بحث آخر نفصل فيه العناصر الأجنبية في فلسفة ابن الطفيل وتعاليمه، ونختم الآن هذا الفصل في أن: فيلسوف الأندلس قد أجاد كل الإجادة في سبك قصته الفلسفية وأسلوبه فيها جميل وسهل وجذاب يقرب إلى ذهن القارئ الأقوال الفلسفية، ومع أن إنشائها سهل وبسيط رائق لم تخل أحيانا من التعقيد والغموض. ونتيجة القول أن هذا الكتيب النفيس مشحون بالتعاليم الفلسفية الإسلامية ترفرف عليه روح الافلاطونية الحديثة. ومن يطلع على هذه القصة يوافق الإفرنج على حكمهم:(إنها آية من آيات القصص العربية الحكيمة ومختصر فلسفة العرب).