عن غطرسة القوة التي لا تجدي أمام المقاومة السلبية الشاملة، ودعت رجال سوريا إلى المفاوضة اقتداء ببريطانيا في مصر والعراق. ولا تزال هذه المفاوضات دائرة؛ وإذا كانت تتعثر، فما من شك في أن سوريا بالغة سؤلها عاجلاً أو آجلاً، فما بقي من هذا مفر، وإلا قامت القيامة في وقت لا ينقص فرنسا فيه الأزمات والارتباكات والمشاكل العويصة.
فالدنيا تتغير حول فلسطين، والإنجليز هناك جامدون لا يغيرون شيئاً من سياستهم، ولا يبدلونها على ما تقضي به الأحوال الجديدة. وهذا هو وجه العجب منهم، فإن العهد بهم أنهم أهل كياسة ومرونة وحذق، وأنهم أساتذة بارعون في تكييف سياساتهم وفق الأحوال. ولكنا نراهم الآن يجزعون من الاتفاق المنتظر بين فرنسا وسوريا، ويشفقون على فلسطين من عدوى الاستقلال السوري حتى ليقال إنهم سعوا سعيهم عند فرنسا ليحبطوا الاتفاق أو يؤخروه على الأقل حتى يفرغوا من ثورة فلسطين.
ويبدو لنا أن عناد الإنجليز في فلسطين يرجع إلى سببين: أحدهما أنهم يريدون أن يجيء اقتراح وقف الهجرة من الصهيونيين أنفسهم، مصانعة منهم للنفوذ المالي للصهيونية في بلادهم وفي العالم كله. وهم لا ينكرون أن العرب على حق في المطالبة بوقف الهجرة والاكتفاء بما كان إلى الآن؛ ثم إنهم يعرفون أن وقف الهجرة لا يناقض ما وعدوا به من إنشاء الوطن القومي ولا ينافي عهد بلفور، لأن هذا الوعد كان بإنشاء الوطن (في) فلسطين لا بجعل فلسطين كلها وطناً قومياً للصهيونية. وقد تم ذلك وأنشئ الوطن وتحقق الوعد وبرت إنجلترا بالعهد. ثم إن العهد نفسه مقيد بالمحافظة على مصالح أهل فلسطين الأصليين. فإذا وقفت الهجرة فإنها تقف تنفيذاً للعهد، كما أبيحت تنفيذاً للعهد. ولكن الحكومة البريطانية تتلكأ حتى تتقدم اللجنة الصهيونية باقتراح الوقف بعد أن تتبين لها استحالة الاستمرار.
والسبب الثاني أن بريطانيا تروم أن تخضع العرب في فلسطين وتكرههم على إلقاء السلاح قبل أن توفق سوريا في مفاوضة فرنسا، لأن العود إلى الثورة يكون عسيراً جداً، ولا بد من انقضاء فترة طويلة تستريح فيها الأمة من مجهود الثورة وتستجم. والمعهود في الإنسان أن الحماسة تنبه أعصابه وتشدها فلا يكاد يشعر بعظم الجهد الذي يبذله والمشقة التي يعانيها، ولكنه بعد أن يفرغ من ذلك ويسكن لا تكاد حاجته إلى الراحة تنقضي. وهذا هو الذي تعول