عليه بريطانيا في فلسطين؛ فهي تلج في العناد وتأبى إلا العنف في القمع وتصر على التسليم والسكون قبل أن تعد بشيء أو تظهر استعادها لإجابة المطالب العربية، لعلمها أن العرب إذا سكنوا فبعيد جداً أن يثوروا كرة أخرى إلا بعد فترة راحة طويلة. وإلا فمتى عهدنا الإنجليز يقاتلون في سبيل غيرهم ويسخون بدمائهم هذا السخاء من أجل شعب آخر، ولا سيما إذا كان هذا الشعب لا يقاتل ولا يدافع عن نفسه بل يلقي عليهم وحدهم عبء الدفاع كله؟؟ فليس حرص الإنجليز على الوطن القومي وإنما هو مركزهم في فلسطين، وهم لا يعبئون شيئاً بوعد بلفور فقد نقضوا ألف وعد ووعد مثله ولم يعدموا مسوغاً، وإنما الذي يخشونه هو أن يترقى العرب في مطالبهم من وقف الهجرة إلى جلاء الإنجليز أنفسهم عن بلادهم. فما يخفى عليهم أن قضية الوحدة العربية أو الحلف العربي تتقدم، وأن الثقة بإمكان ذلك تعظم وتقوى، وأن الإيقان بتحقيق هذا الأمل يعمر الصدور، ولكنا كنا نظن أن الإنجليز أبعد نظراً مما يبدون الآن في فلسطين، فأن العرب أصدقاء طبيعيون لبريطانيا؛ وهم يؤثرون محالفتها على سواها لأنها دولة شبعت واكتظت فحسبها أن تتحفظ بما لديها وأن تستبقي خير ما في يديها. فالعرب لا يتوجسون منها كتوجسهم من دولة كإيطاليا تحدثها آمالها بنشر الدولة الرومانية التي عفى عليها الزمن. ومن مصلحة بريطانيا أن تضمن ود الأمم الواقعة على طريق إمبراطوريتها وأن تثق بمعونتها ووفائها لها عند الحاجة، وبغير ذلك لا ندري كيف ترجو السلامة وتأمن أن تتبعثر أجزاء إمبراطوريتها تبعثر حبات العقد؟؟ ولكن سلوكها في فلسطين ينفر العرب جميعاً في كل رقعة من رقاع الأرض ويسود قلوبهم ويوغر صدورهم، والعرب أمة تكبر العدل كائنة ما كانت الأغراض المحجوبة والغايات المستورة؛ وليس في وسعهم أن يعذروا بريطانيا وهم يرون عرب فلسطين يكتفون بمطالب اعترفت لجان التحقيق الإنجليزية واحدة بعد واحدة بعدلها ووجوب إجابتها. وليس أدل على أن قلوب العرب كلهم يعصرها الألم لمصاب فلسطين من إجماع ملوك العرب على التوسط عند الحكومة البريطانية طالبين الإنصاف لهذا الشعب المسكين. وقد تستطيع بريطانيا بقوتها أن تطفئ الثورة وتخمد الوقدة، ولكنها لا تكسب بذلك بل تخسر: تكسب استقرار الأمر لها على الحد الذي ترومه في فلسطين - إلى حين - وتخسر العرب جميعاً في كل رقعة من رقاع الأرض. ولو فاءت إلى العدل، لما غض ذلك منها عند