أم كنت مظلوماً ولم تكن لصاً ولم تحترف السرقة، ولكن رأيت صبية مشرفين على الموت من الجوع، وأسرة كادت تودى من أجل رغيف، ورأيت حقك في بيت مال الأمة، قد سرقه السادة الأكابر فغطيت وجهك حياء، وأخذت رغيفاً ليس لك، فثار بك المجتمع وقامت عليك الصحف، وتعلق بك القانون حتى استاقك إلى السجن، فمت فيه مفجوعاً بشرفك وأولادك!
اقترب أيها المجرم. أدن أيها الشهيد، تعال انتقم، هذا هو القاضي الذي حكم عليك، لأنك سرقت رغيفاً تعيش به أسرة، ثم خرج يخترق الصفوف، صفوف الشعب الذي اجتمع ليشهد انتصار الحق وظفر العدالة، فلما رآه حياه وهتف له حتى بح صوته، وصفق حتى احمرت كفاه، فلما ابتعدوا لم يعد يراه أحد مد يده التي حمل بها (مطرقة العدل) فأخذ ثمن وجدانه الذي باعه، أخذ الرشوة. . . تعال انتقم. إن القاضي والمجرم قد التقيا وزالت من بينهما الفروق!
أم أنت أيها الإنسان جندي صاحوا به: الوطن في خطر! الحضارة مهددة بالزوال! لقد أوشك أن يموت الحق وتذهب الفضيلة! فاشتعلت الحمية في رأسك، والتهب الدم في عروقك، وقدحت عيناك بالشرر، فتركت أمك المسكينة ليس لها بعدك إلا الله، وأسلمتها إلى الحزن الطويل، والثكل القاتل، وأولادك الذين تعلقوا بك يصيحون: بابا. . بابا. . أسلمتهم إلى اليتم والفقر والبؤس، وذهبت تلبي نداء الحق والفضيلة، وتخلص الحضارة، وتنقذ الوطن. . . فنمت على الجثث، وتجلببت باللهب، وتوسدت القنابل، حتى إذا أدركك أجلك سقطت صريعاً، وأقبل رفاقك يدوسون على جثتك، لا يجدون وقتاً لإزاحتها ودفنها، لأنهم يخافون إذا أبطئوا ألا يدركهم الموت في سبيل الإنسانية. . . فلما ماتوا جميعاً ربحت الإنسانية وساماً زين صدر القائد، وصفحة في تاريخ العدوان، وثبت كرسي طاغية من الطغاة. أو استقرت مكانة حزب من الأحزاب، أما الأطفال الأيتام والعجائز الثاكلات، فحسبهم عوضاً من آبائهم، وحسبهن بدلاً من أبنائهن التمتع برؤية موكب القائد الظافر.
أم أنت أيها الإنسان القائد نفسه، قد جرّد صدره من الأوسمة والشارات، وجسمه من الحلة المزدانة بالقصب، ووجهه من الأنف والعينين، وعاد قفصاً من العظام، لا يمتاز من أصغر جندي وأحقر صعلوك، فلم يعد لك تانك العينان اللتان تبرقان، فترتجف لبريقهما أقسى القلوب، وذانك الشاربان القائمان كساريتي مركب، وذلك الصوت القوي، الذي كان يصيح