علته من جرثومة للموت ولدت فيه. وما هي الا سنة فأخرى حتى سالت الخمر في أمريكا سيلان الماء فيها، سدت عليها منافذ الماء، ومهابط السماء، فتفجرت كالزيت من منابع في أرضها، في عقورها ديارها، فعبها الناس اغتراقا، وعبها رجال القانون معهم؛ ومتى أبطل مداد الأوراق ما جرى به مداد الأعراق؟ ولما أصبح القانون، ذلك الشيخ الوقور المهاب، يصفع في السر أقل ويصفع في الجهر أكثر جاء منتخبوهم منذ أسابيع فرحموا الشيخ فعقروه، وهكذا عادت الخمر الشيخة تتهادى إلى عرشها، فلما استقرت فيه نظرت للإنسان فابتسمت وكان من ورائها الأجيال فابتسمن أيضا.
وبعد فما الخمر الا الكحول، وهو ماء ولا ماء، ماء في مظهره ونار في مخبره، وقد اتخذ أشكالا عدة، وأسماء عدة فأسموه البيرة أسموه النبيذ وأسموه الوسكي وكل هذه تحويه أن قليلا أو كثيرا وهي تفقد أسماءها بفقده، ومن السخف ما يباع أحيانا بأنه بيرة لا كحول فيها. والبيرة تنتج من تخمير الشعير وبها ما بين ٤ إلى ١٠ في المائة من الكحول ومقدار لا بأس به من أجسام صلبة ذائبة شبه السكر نتجت من تحلل النشاء الذي كان بالشعير. والبيرة المعتادة لونها اصفر وطعمها مرير بسب عشب يضاف إليها. والنبيذ ينتج من تخمير عصير العنب وبه ما بين ٦ إلى ٨ في المائة من الكحول ولونه أحمر ويتعاطاه الكثير من الفرنجة على الطعام كما يتعاطون الماء. وهناك نوع آخر من النبيذ ويسمى البرط وبه ما بين ١٥ إلى ٢٠ في المائة. وبالأنبذة غير الكحول مواد سكرية وحوامض كحامض الطرطير تعطيها طعما ذاعقا. أما حسن طعمها وطيب ريحها اللذان يشيد بهما الشعراء فيرجعان على الأكثر إلى اتحادات بين ما بالأنبذة من حوامض وما بها من كحولات إذ (تتأستر) هذه بتلك فتنتج ما يشبه الزيوت العطرية طعما وطيبا. ويزيد هذا (التأستر) على الزمن، لذلك تختزن الخمر فلا ترى الشمس أحقابا طوالا. قال أبو نواس يتمدحها:
عتقت حتى لو اتصلت ... بلسان ناطق وفم
لأحتبت في القوم ماثلة ... ثم قصت قصة الأمم
وأما الشمبانيا فهي أخت النبيذ، فأبوهما الكرم، إلا أن لونها أصفر، ويرجع هذا إلى أنهم يعصرون العنب سريعا فلا يمهلون الصبغة التي بقشرته أن تجري في العصير فتخمره،