وأعلن الباشا في أظرف إعلان وأبلغه كذب الرجل ونفاقه وإسفافه وأنه من رجال الصحافة المدَّورة تدوير الرغيف. . .
قال: ونظرت إلى الصحفي الإنجليزي نظرة أكشفه بها فإذا أول الفرق بينه وبين أمثاله عندنا - شعوره أن بلاده قد ربته (للخارج) فهو عند نفسه كأنه إنجليزي مرتين؛ ويأتي من ذلك إحساسه بعزة المالك وقوة المستعمر فلا يكون حيث يكون إلا في صراحة الأمر النافذ أو غموض الحيلة المبهمة؛ ويستحكم بهذا وذاك طبعه العملي، فهو بغريزته مقاتل من مقاتلة الفكر يلتمس ميدانه بين القوى المتضاربة لا يبالي أن يكون فيه الموت ما دام فيه العمل؛ وبهذا كله تراه نافذ البصيرة قائماً على سواء الطريق، لأن الإنجليزي الباطن فيه يوجِّه الإنجليزي الظاهر منه ويسانده؛ وفي أعماق الاثنين تجد إنجلترا وليس غير إنجلترا.
ثم تفرَّست في الرجل أريد كُنهَه وحقيقته فإذا له نفس مفتوحة مقفلة معاً كغرف الدار الواحدة يفتح بعضها لما فيه كيما يرى، ويقفل بعضها على ما فيه كيلا يرى. وله وجه عملي يكاد يحاسبك على نظراتك إليه، تدور في هذا الوجه عينان قد اعتادتا وزن الأشياء والمعاني، يتلألأ في هاتين العينين شعاع النفس القوية الممرَّنة قد نفت الثقة بها نصف هموم الحياة عن صاحبها، تُمِدُّ هذه النفس طبيعة مؤمنة بأن أكبر سرورها في أعمالها، فواجبها في الحياة أن تعمل كل ما يحسن بها وكل ما يحسن منها.
لقد خيل إلي وأنا أنظر إلى نفسية هذا الإنجليزي أن كلمة الخيبة عند هؤلاء الإنجليز غير كلمة الخيبة عندنا نحن الشرقيين، فإن خيبة النفس لا تتم معانيها أبداً في النفس العاملة الدائبة التي يشعرها الواجب أنه شيء إلهي لا يخيب، وأن ما يرفض على هذه الأرض من العمل الطيب لا يرفض في السماء.
وكأن الرجل قد أدرك غرضي بملكته الصحافية الدقيقة فأجابني عن السؤال الذي لم أسأله وقال لي مبتدئاً: إن أساسنا الشخصية وحاسة الواجب؛ وإن فيكم أنتم كل شيء إلا هذين. فأخلاقنا تظهر دائماً في العمل، وأخلاقكم تظهر دائماً في الكلام الفارغ؛ ونحن نطلب الحقيقة وأنتم تطلبون الألفاظ، حتى إنه لو خسر المصري ألف دينار ثم أعلن أنها مائة فقط وصدق الناس أنها مائة، لكان عند نفسه كأنه ربح تسعمائة. . . .
قال صاحب السر: واستأذنت له على الباشا فسهل ورحب؛ ثم هممت بالانصراف عنهما