ولكن الإنجليزي قال: يا باشا! إنه قد تمكن في روعي أن صاحب سرك هذا متعصب ديني، وقد علمت أنه ابن فلان القاضي الشرعي فطربوشه ابن العمامة؛ ولقد كان ينظر إليّ وكأنه يتأمل من أين يذبحني. . .
فضحك الباشا وقال لي: يا فلان! إن هذا الكاتب من تلاميذ برناردشو، فهو كأستاذه يجعل لكل حقيقة ذَنَباً كذيل الهر ثم يمسكها منه فإذا هي تعضَّ وتتلوى. . .
والتفت بعد ذلك إلى الإنجليزي ثم قال له: جاءني كتابك فإذا كنت تريد رأيي فيما تسميه التعصب الديني عند المسلمين فعجيب أن تضعوا أنتم الغلطة ثم تسألونا نحن فيها. إنك لتعلم أن هذا التعصب الكذب الذي أكثرتم الكلام فيه إنما هو لفظ من ألفاظ السياسة الأوربية أرسلتموه إلينا ليقاتل لفظ التعصب الحقيقي؛ ومن قبل هذا اخترعتم لفظة (الأقليات) وأجريتموها في لغتكم السياسية لتجعلوا بها لتعصبنا الوطني شكلاً آخر غير شكله فتفسدوه علينا بهذه المادة المفسدة؛ وبذلك تضربون اليد اليمنى من غير أن تلمسوها إذ تضربونها بشل اليد اليسرى.
إن الإسلام في نفسه عدو شديد على التعصب الذي تفهمونه، فهو يقول لأهله في كتابه العزيز:(كونوا قوامين بالقسْط شُهداءَ لله ولو على أنفسكم أو الوالدَيْن والأقربين).
فإذا كان العدل في هذا الدين عدلاً صارماً وحقاً محضا لا يميز بشيء البتة، لا ذات النفس التي فبها اشتهاء الدم، ولا أصلها من الأبوين اللذين جاءت منهما وراثة الدم، ولا أطرافها من الأقربين الذين يلتفون حول نسب الدم - إذا كان هذا فأين في هذا العدل محل الظلم؟
لعلك تشير إلى هذه الرعونة التي تعرفها في الأغمار والأغفال من العامة، فهذه ليست من أثر الدين بل هي أثر الجهل بالدين. إن هذا ليس تعصباً بل هو معنى من معاني الحَمِيَّة النفسية الخرقاء لم تجدوا أنتم له لفظاً، وكان أقرب الألفاظ إليه عندكم هو التعصب فأطلقتموه عليه للمعنى الذي في نفسه والمعنى الذي في أنفسكم. ألا فاعلم أن إسلام العامة اليوم هو كالعدوى المقبولة شكلاً والمرفوضة بعد ذلك.
قال الإنجليزي: ولكن لهؤلاء العامة علماء دينيين يدبرونهم من ورائهم وهم عندكم ورثة النبي (ص) أي منبع الفكرة وقوتها.
قال الباشا: غير أن هؤلاء قد أصبحوا كلهم أو أكثرهم لا يندسُّ فيهم عرق من تلك الوراثة،