فيها الشمس المحرقة والرياح السافية؟ أجل لقد كان اجتياز الجيوش الإسلامية في مختلف العصور لصحراء العرب وصحارى الشام وشمال إفريقية أعجوبة من أعاجيب العصر، بل إن اجتياز هذه الصحارى في عصرنا يعتبر عملاً من أعظم الأعمال الحربية.
ولقد ذكرت بهذه المناسبة ملاحظة غريبة أبداها المؤرخ الفيلسوف ابن خلدون عن خواص الفتح العربي، فقد عقد في مقدمته فصلاً ذهب فيه إلى (أن العرب لا يتغلبون إلا على البسائط) وأورد كعادته أمثلة وأسباباً، ولكني أعتقد أن ابن خلدون غير محق في ملاحظته؛ ويكفي أن نذكر أن العرب افتتحوا هضاب فارس وأرمينية والأناضول والغرب، وافتتحوا أسبانيا وتغلبوا على وعرها بأيسر أمر، ثم اقتحموا جبال البرنيه الشامخة إلى فرنسا وافتتحوا ما وراءها من الهضاب والسهول؛ ولم تكن هذه كلها من البسائط التي يعنيها ابن خلدون.
هذه خواطر أثارتها في نفسي زيارتي لسبتمانيا أو الرباط الأندلسي القديم؛ ولقد قضيت في تلك الربوع أياماً؛ وكنت كلما وقفت بأحد هذه المعاهد القديمة ارتد خيالي إلى ما قبل ألف ومائتي عام وتصورت العصر الإسلامي كله ماثلاً أمام عيني بحوادثه ووقائعه الحافلة، ومرت بذاكرتي أسماء عربية رنانة روت بدمائها تلك الأرض: السمح بن مالك بطل موقعة تولوشة، عبد الرحمن الغافقي بطل موقعة بلاط الشهداء. . . . ولقد كنت في الواقع على سفر إلى الأندلس، وكنت اعتزم أن أتجول في ربوعها التي ما زالت تحمل ذكريات عزيزة للإسلام وآثاره، ولكن الثورة الأسبانية المشئومة حالت دون تحقيق هذا الأمل، فلبثت أياماً في سفح جبال البرنيه أرقب الحوادث وأنتظر سنوح الفرصة، ولكن شاء ربك أن يندلع لهيب الثورة في جميع أنحاء أسبانيا بصورة مروعة تحمل أشد المغامرين على الزهد في زيارتها.
على أن الزمن كفيل بتحقيق الأمل، والصعاب تشحذ العزائم. وسوف أستعين بالله دائماً على المضي في مباحثي الأندلسية إلى ن يحقق أملي كاملاً في إخراج تاريخ العرب والإسلام في أسبانيا.