كذلك سبب توسط طول القصائد وعدم تراوحها بين الملاحم الطوال والمقطوعات الصغار، ثم هو سبب اكتظاظها بالأفكار لا يربطها رباط جامع من خيال وثيق.
ولا ترجع ندرة آثار الخيال في الأدب العربي إلى ضعف ملكته بين الشعوب العربية، فإن كثيراً من تلك الآثار تدوولت في العامية دون الفصحى بين الشعوب الناطقة بالضاد، وإنما ترجع تلك الندرة إلى التقاليد الجامدة الشديدة التي تسلطت على الأدب العربي لظروف خاصة سبقت الإشارة إليها في كلمات ماضية: من محاكاة للأدب القديم - وهو نادر آثار الخيال لأنه أدب بدائي - ومجانبه للآداب الأخرى ولا سيما الأدب الإغريقي.
وليس أدل على أثر الثقافة الإغريقية في تربية الخيال من أن إطلاع العرب على جمهورية أفلاطون حدا ببعض فلاسفتهم إلى محاكاته في تخيل الدولة المثلى، فكان من ذلك (المدينة الفاضلة) و (حديث حي بن يقظان) وغيرهما، مما هو داخل في موضوع الفلسفة لا الأدب، فلو درس العرب دب الإغريق دراستهم لفلسفتهم لكان ذلك أثره المحتوم.
فالأدب الإغريقي حافل بالخيال البعيد المرامي، مليء بالعوالم الزاخرة بشتى العظائم والمحاسن، واغتراف الأدب الإنجليزي من مناهله هو الذي أمده بفيض من الخيال لا يفنى: وضَّح أمامه مذاهب التخيل وأشكاله، وأمده بالخرافات والأقاصيص العديدة تحاك حولها أعمال الخيال في الشعر والنثر، وتفعم بصور الجمال وترصع بالآراء النقدية والنظريات الثاقبة في شؤون العالم وأحوال المجتمع، وتلك لعمر الحق مادة الأدب وصميمه.
أما الأدب العربي فظل الواقع قبلته والحاضر ديدنه، وحين ضرب في مرامي الخيال في الغزل الاستهلالي والمكرمات المصطنعة ينسيونها إلى الممدوحين والمرثيين إنما كان يفعل ذلك مطمئناً إنه يحذو حذو المتقدمين ولا يخرج عن الحدود المرسومة للأدب في عهودهم، فجاء ذلك الخيال غثاً ممجوجاً لا يتجاوز جانب الأوهام والتلفيقات إلى جانب التعبير الصادق عن الحقيقة العميقة.
وبينما أساغ الأدب العربي هذا الخيال الغث المتكلف نبذ ضروب الخيال المطبوع الصادق الذي يمت إلى الحياة والذي هو عماد القصة النثرية والشعرية، فترفَّع عن ذلك تاركاً إياه للعامة يروون به غلتهم، تلك الغلة التي يشعر بها كل إنسان وتنزع به إلى القصص وإلى الخيال.