فالمتقشفون هم إجمالاً نفر فشلوا في الحياة بعد أن خوَّضوا فيها، أو قدروا الفشل قبل ذلك، فاختصروا على أنفسهم العمل ووقفوا في أول جادة الحياة وبداءة السعي دون أن يحاولوا مضياً في الطريق وزيادة في السعي. لقد أعياهم أن يغلبوا بيئتهم ويتغلبوا على ضعفهم، فانقلبوا على أنفسهم - وهي أهون شيء عليهم - وأحالوا عليها بالخصومة وأضووها بالحرمان وتعوَّضوا بخصومتها عن خصومة المحيط والأضداد من الخارج. ولسنا بالطبع نعزو إلى هذا العكس في ميول الاستعلاء ورغبة البروز وتوكيد الذات جميع نماذج التقشف وإنكار الذات المشهودة، إذ لا ريب أن من حوادث التقشف ما لا يرجع في بواعثه إلى فشل المرء في الحياة كالذي يُرى من تقشف أناس قد تهيأت لهم أسباب النجاح في الحياة وذاقوا لذات الفوز والغلب ولكنهم مع ذلك آثروا حرمان الذات ومطاردة اللذات. على أننا نعود ونقرر أن معظم حوادث التقشف هي في مجملها وسيلة العجز في تقرير الشخصية وتوكيد الذات.
والحسد - كذلك - تعبير صامت واتجاه سلبي معكوس لدافع توكيد الذات. والحسد ينشأ ويتأصل في النفوس كلما تسامت مطالب المرء وبعدت غايته ثم أعجزته القدرة وعاكسه المحيط فلم يسم، عملاً وواقعاً، إلى مستوى مطالبه. ومن هنا يحسب الأخلاقيون وعلماء النفس أن الحسد ظاهرة عامة شاملة بين الناس إذ كان النجاح المطلق الذي يرضى عنده المرء عن كل شيء في الحياة مطلباً صعباً وغاية لا يسمو إليها جهد بشري. ويخيل إلينا أنه لو يسر لامرئ من الناس كل أمانيه ومهدت في سبيله جميع الصعاب ودمثت جميع العقبات وأنيل كافة ما تتشهاه النفوس وتصبو إليه، لفكر بجد وحرقة زائدة في أن ينال كمنزلة الآلهة من خلود مطلق وعلم كامل وقدرة فائقة. ومرجع ذلك أن المرء بطبيعة تكوينه النفسي والفكري مثالي يكره النقص أبداً ويتطلب المزيد والكمال، والكمال لا حد له ولا انتهاء. وهذا لا ريب يفسر لنا لماذا ينسينا نجاحنا الكبير نجاحنا الصغير، ولماذا ينسينا فشلنا الأكبر أبداً فشلنا الأصغر.
والرجل الحساس هو الآخر صنف خاص من الناس فشل في أن يؤكد نفسه ويرغم المحيط على اعتبارها وتقديرها بالقدر القائم له منها في خياله، فغدا - لذلك - سيئ الظن بالناس