كثير الارتياب لهم، وصار لكل حركة من حركاتهم معنى الاجتداء عليه والانتقاص له والزراية به، وغدا - كذلك - قليل الاحتمال دائم النفرة سيئ التقدير.
ومثل الحسَّاس - على اختلاف طفيف - الرجل الحيّ. هذا إذا فشل في توكيد نفسه وتمييز شخصه، قام في وهمه أنه امرؤ لا يصلح للعمل ولا يقوى على الجهاد، فانزوى منطوياً على نفسه عاكفاً على همومه مجترّاً لآلامه. إلا أن بينه وبين الحسَّاس فرق أن الحسَّاس يعالن الناس غالباً بما يقدر من سوء رأيهم فيه ويحتجُّ على ذلك ويدافع عن نفسه، بينما الحيُّ في غالب أمره لا يفعل شيئاً من ذلك بل يتجرع آلامه صابراً متحاشياً، بقدر الامكان، أن يجيء والناس بسبيل واحد. ومرجع الفرق هنا إلى أن الحساس له رأي طيب في نفسه بالإضافة إلى ما يتصور من سوء رأي الغير به، بينما الحيُّ يسيء الظن بذاته ويعتقد أن الناس لهم فيه مثل رأيه في نفسه.
ينضاف إلى هذه المظاهر المعكوسة من توكيد الذات مظهر آخر هو مظهر الإسراف في الغرور وتقدير الذات. وهو ينشأ إذ يشبُّ المرء - لأسباب عدة من إساءة التوجيه - على اعتقاد قوي أنه امرؤ فوق الناس، وأن من سخافة الأقدار وغفلة الزمان وجور البيئة أو يولد بين الناس، يعيش كما يعيشون، فيشقى كما يشقون وينعم كما ينعمون ويكتفي من الأماني والآمال بمثل ما يتمنون ويؤملون، ويخيَّل إليك كأنه عاتب على ربه الذي خلق من الناس غيره!!
هذا وقد يتخذ الغرور مظهراً آخر غير مظهره العام حده التشدُّق بالكمال ونقد الزمان والتبرم بالبيئة، ويسير في اتجاه معاكس أو موارب كالذي يُرى في نفرٍ من الناس لم يستطيعوا أن يفرضوا أنفسهم على المحيط ولم يستطيعوا أن يجاهروا بكمالهم ويعالنوا الناس بكفاياتهم واقتدارهم (كما يقدِّرون لأنفسهم)، فانقلبوا - لذلك - صنفاً متواضعاً من الناس لا يهمهم - ظاهراً فقط - أن يتلبَّسوا حالات زريَّة وينتقدوا أنفسهم على مشهد ومسمع من الناس. وقد تغشُّ غير الفطن مثل هذه المظاهر حتى ليعتقد الملاحظ السطحي الذي لم يسبر غور الأمور أن هذه المظاهر تصدر عن عقيدة صادقة بالنفس وإخلاص في التقدير. إلا أنها مظاهر - على كل حال - لا تخفى على المتبصِّر الذي لا يخدعه ظاهر الإخلاص وجودة التمثيل. يحكى أن سقراط رأى فتى أثينياً موسراً يعتلي منصة الخطابة