ويمر بعد ذلك عامان وبضعة أشهر فيرسل إليه سيف الدولة كتاباً بخطه يسأله فيه المسير إليه فيعتذر له بقوله:
وما عاقني غير خوف الوشاة ... وإن الوشايات طرق الكذب
وتكثير قوم وتقليلهم ... وتقريبهم بيننا والخبب
وقد عاوده طبعه الذي دللنا عليه حين ورد على عضد الدولة فقد قال له في أول لقاء:
قد رأيت الملوك قاطبة ... وسرت حتى رأيت مولاها
ثم يقول له بعد ذلك:
يقول بشعب بوان حصاني ... أعن هذا يسار إلى الطعان
أبوكم آدم سن المعاصي ... وعلمكم مفارقة الجنان
فقلت: إذا رأيت أبا شجاع ... سلوت عن العباد وذا المكان
فإن الناس والدنيا طريق ... إلى من ماله في الناس ثن
لقد علمت نفسي القول فيهم ... كتعليم الطراد بلا سنان
وانظر إلى هذا البيت الأخير فإنه يعتذر فيه عن كل مدائحه التي قالها من قبل عضد الدولة بأنه كن يقولها ليروض نفسه ويعلمها حتى إذا اعتادت لم يحسن منه القول إلا فيه.
تنبؤه
ليس في حياة أبي الطيب مسألة أشد غموضاً من سر هذا اللقب الذي نبزوه به، ومهما يكن في حياته من الدقة والغموض فإنا نعترف بقوة الدقة والغموض اللذين أحاطا بهذا اللقب. وآية ذينكم أن الكتاب ما زالوا يكتبون عن أبي الطيب منذ كان إلى يوم الناس هذا وهم يختلفون في الإبانة عن حقيقة هذا اللقب. وكتاب عصرنا هذا مختلفون أيضاً في الاستنتاج والتعليل. ولقد حاولت أن أقف على الوضع الحقيقي لهذه المسألة متخذاً من شعره وأخباره نبراساً أستفيء به فأعياني تطلابه ووقعت في حيرة ولبس وإبهام هي شر من الإعراض عنه، ذلك أنه لم يعن أحد ممن عاصر المتنبي أو قرب من عصره بالبحث عما يشوقنا اليوم أن نعرفه بحثاً يثلج صدر الحقيقة ويملأ قلب الناس بصحة أسبابه ونتائجه؛ فكل ما بين أيدينا كلمات منثورة في بطون الكتب جرى بعضها على ألسنة قوم عرفوا بالهوى فيه والتعصب له إلى حد التغاضي عن القبح، وجرى بعضها الآخر على لسان قوم لم يعرف