للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مشهور عن الكاتب الإنجليزي المعروف شارلز دكنز، فقد كان لا يكاد يستفيق، كان كالشمعة يضيء للناس وهو يحترق. وتعقب دائما فترة الإيحاء هذه فترة خمود عميق يكل فيها الذهن وتنثلم الحواس.

وفعل الخمر بالعواطف يناهض فعلها بالعقل، فمن الناس من يخف به الفرح حتى ليذهب بوقاره، ومنهم من تأتيه الكآبة فلا يكاد يحبس دمعه، ومنهم من يرتاع فيهلع قلبه خوفا وفرقا، ومنهم من يشجع فيغفل عن عواقب الأمور. ومن المثل الأخيرة الجراحون فان منهم من لا يستطيع حمل المشرط إلا إذا نقع حواسه بنقيع إبنة العنب.

ولعل هذا ما حدا إلى الجمع بين الخمر وبين كل لذة ولا سيما ما اتصل منها بعاطفة كالغناء والنساء. وهو الذي جمع كذلك بين الخمر وبين كل كآبة، فكم من عزيز قوم تجهمت له الحياة في حب أو وشيجة أو مال فلم يطقها، ولم يطق الموت، فأمات نفسه حيا بالكأس تتلوها الكؤوس. وقد وجدوا أن المستهلك من الشراب يزيد في الضائقات المالية التي تعتري الأمم زيادة كبرى.

ولعل اخطر ما في الشراب الإفراط فيه حتى تتأصل عادته. يشرب الشارب فيكثر، ويشرب والمعدة ملأى بالطعام ويشرب وهي خالية فيكون امتصاص الجسم له في الحالة الأخيرة أشد وسريانه أسرع والى المخ أوحى؛ فتقصر فترة الانتعاش الأولى إلى العدم وتسرع الحواس فتغيم والبصر فيتغبش فيرى الواحد اثنين، وتصيت الأذن ويخف الرأس ويضيع الحكم على الأمور ويرغو الفريسة ويزبد وتأخذه رغبة في الشجار والتحطيم، ثم يسقط جسدا هامدا في غشية تتعطل فيها قوى المخ جمعاء إلا النزر اليسير الذي يكفي لإجراء الدم وإخراج الأنفاس، ثم يصحو من نوم عميق محموم الجسد مصدع الرأس فاقد القوى، بالأذن رنين لا يسكت، وبالقلب وجبة لا تسكن، فلا يجد خلاصا من تلك الأعراض المؤلمة إلا بإعادة الجرعة وهي حقا تزيلها وتزيلها سريعا. قال الأعشى:

وكأس شربت على لذة ... وأخرى تداويت منها بها

ولكنه شفاء لا يدوم إلا قليلا، فيأخذ المسكين يتداوى من داء بداء حتى يصبح الشراب عادة أشد تأصلا في أعراقه من تأصل الروح فيها، وتسوء في هذه الأثناء معدته لأن الكحول مهيج شديد لأغشيتها، ويعتريه فيه التهاب مزمن لا تنفع فيه حيلة الأطباء، وتتحلل مادة

<<  <  ج:
ص:  >  >>