يسعها - لشعورها بضعف مركزها - إلا مناصرة عوامل الفساد التي ترى مصلحة لها في بقائها، أو خَلْقُ تلك العوامل.
ولقد كان في الدولة الإسلامية عامل جليل الأهمية لو بقي تأثيره فاشياً لكان الأدب العربي أرقى الآداب على الإطلاق لفظاً وأعفها قصداً، وأعظمها تساميا: ألا وهو الدين الإسلامي الذي يحض على مكارم الأخلاق والذي كانت الدولة تقوم على أساس منه، ويتضح أثره في عصر الخلفاء الراشدين، وما كان من تأديب الحطيئة وردعه عن أعراض الناس.
ولكن هذا العامل السامي الجليل تُنُوِسيَ في غمار السياسة، وجرفه تيار التكالب على الملك والسلطة، فلم يَعُدْ الخليفة أو الأمير يغضب إلا أن يناله الشاعر ببذائه، فبشار بن برد الذي ضج عليةُ القوم ودهماؤهم عهداً طويلاً من فجوره وإقذاعه ظل مُعافَىَ ولم يمس بسوء حتى تمادت به جسارته إلى عرض الخليفة ذاته. أما ما دام الشاعر متقياً غضب الحاكم أو مجتلبا رضاه فلا ضير عليه أن يرمي باللؤم أنصار الرسول أو يفضل إبليس على آدم، أو يتهكم بيوم الحشر، أو يتفاخر بشرب الخمر، أو يتلهى بسب الرجال وقذف المحصنات، أو يتباهى بالتسلل إلى الخدور في غلس الظلام.
هكذا ضم الأدب العربي بجانب سامي الأغراض وشريف الأقوال وكريم الحكم والأمثال سقطاً من القول قوامه الإباحية والاستهتار، وقام من الأدباء من صدموا الناس في عقيدتهم وتقاليدهم ونالوا من أعراضهم وسمعتهم، وأودعوا الأدب من خسيس الأقوال ووضيع الأغراض ما ينافي مقاصد الأدب وسمو الفن بالنفس الإنسانية. ولما لم يكن للناس عاصم من شرهم من رأي عام أو حكومة ساهرة عَمَدَ من استطاع منهم بِحَولٍ أو مكيدة إلى الذب عن نفسه بنفسه، وهكذا لقي المتنبي وابن الرومي حفيهما على أيدي مهجويهما.
وهناك عامل اجتماعي لابد أنه كان من عوامل ذيوع هُجر القول في الأدب العربي، بل في المجتمع العربي ذاته: ألا وهو انسحاب المرأة من المجتمع شيئاً فشيئاً، ففقَدَ الأدب باحتجازها وراء الحجاب عاملَ تجمُّلٍ وتَوَقُّرٍ وتعفُّفٍ في اللفظ والغرض، وصار الافحاش من الذيوع بحيث لم يتردد كاتبان فحلان يمثلان مجتمعيهما تمثيلاً كبيراً: وهما البديع والحريري، في حشد مقاماتهما بمقذع السباب؛ بل خَصَّصَا لذاك مقامات بذاتها.
وأظهر ما يكون المجون والفحش في الشعر في أبواب الهجاء والخمريات والنسيب الخليع