للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والتشبيب بالغلمان. وقد أوغل بعض الشعراء في هذه لأبواب إيغالاً لا يكاد يصدقه العقل. ومن العجيب أن الطريقة التقليدية التي يجري عليها تاريخ الأدب العربي لا تزال تعد من فحول العربية شعراء ولم يكد يؤثر عنهم مقال في سوى هذه الأغراض الحيوانية. ومن البديهي أنه مهما تفنن الناظم وابتدع في وصف الخمر وتصوير الشهوات فلن يرفعه ذلك إلى مصاف الشعراء العظام، إذ الشعر الرفيع لا يقاس بحسن الديباجة وبراعة المعنى فحسب بل بشرف الغرض أيضاً.

فدواوين ابن أبي وبيعة وبشار وابن هانئ إن هي إلا استهتار واستسلام للشهوات وتمدح بالمخازي محكمة الديباجة بارعة النظم متنوعة الأوزان والقوافي، تتخللها حكمة شاردة أو مثل سائر ليس للناظم فيه إلا فضل التأنق في إعادة صوغه، فإذا كان هؤلاء وأشباههم من فحول الأدب والعربي فما أقصره عن بلوغ المثل الأعلى للأدب الراقي!

ومما يفترق الأدبان العربي والإنجليزي في استجازته من أبواب القول - وإن كان بمنجي من الفحش - الفخر، الذي لا يسيغه الأدب الإنجليزي بحال، على حين قد زخر الأدب العربي بما قيل فيه وعدّ باباً من أبواب الشعر التي تظهر فيها براعة الشاعر وتكمل بها منزلته. فالذوق الإنجليزي لا يسيغ أن يُزْهَى إنسان بما يتخيله في نفسه من مكارم وعظائم، بل من أول ما تطمح إليه التربية الإنجليزية - كما سبق الالماع - أن تكبح في الناشئ نزعة الزهو والعجب، وليس أَمْقَت في المجتمع الإنجليزي ممن يدل بنفسه. ولم يكن الشعر العربي في أول مره يعرف الفخر بالنفس، وإنما كان فيه فخر بالقبيلة والعصبية ولا بأس بهذا، ثم استباح بعض الشعراء فيما استباحوا لأنفسهم التمدح بالنفس صدقاً وادعاء، وغلوا في مدح أنفسهم غلوهم في مدح أصحاب النوال، بل أغربوا في المفارقة فجمعوا بين المدحين في القصيدة الواحدة، ونسبوا لأنفسهم الحكمة والشجاعة والمجد وشرف المحتد، وأجلسوا أنفسهم بجانب الشموس والبدور، وأوسعوا الدهر والحظ والناس ذماً بقدر ما أوسعوا أنفسهم مدحاً، وتلك جميعاً لعمر الحق بضائع النوكي!

فحرية القول - أو قل إباحته - فاشية في الأدب العربي القديم، بينما التحفظ ميزة الأدب الإنجليزي، وربما تغالي الرأي العام الإنجليزي في تحفظه وتشبثه بما يليق وحَجْرهِ على ما لا يليق الخوض فيه من حديث، فناهض مفكرين كان الخير الإنساني أو النفع العلمي كل

<<  <  ج:
ص:  >  >>