وحان وقت الرحيل بعد أيام، واستحكم حنين العود، فكان التردد على مكاتب السفر والتحري عن المواعيد وعن مختلف الطرق، وكانت أزمنة الأمكنة في البواخر من أي الثغور دليلاً على اضطرام حمى العود؛ وإنك لتأنس في هذه الفترة التي تهيأ فيها إجراءات العود، والتي تقوم فيها بآخر جولة في المدينة وفي منتدياتها شعوراً غريباً من الأسف والارتياح معاً. أما الأسف فلاختتام فترة من الرياضة النفسية والعقلية قلما نظفر بها في مصر. وأما الارتياح فلاختتام فترة من التجوال المبهظ والوحشة؛ ذلك لأن السياحة ما زالت ترفاً غالياً برغم ما تقدمه بعض الدول لتذليلها من التسهيلات في مسائل العملة والسكك الحديدية؛ وقد ذهبت ألمانيا وإيطاليا في ذلك إلى حدود مغرية حقاً، ولكنك ما تكاد تزور ألمانيا أو إيطاليا حتى تشعر بأن هذه التسهيلات لا تعد شيئاً مذكوراً بالنسبة لما تعانيه من غلاء فادح في كل شيء؛ وليس من المبالغة أن نقول إن نفقات المعيشة في أوربا وبخاصة في فرنسا وسويسرا، تبلغ على الأقل مثليها في مصر؛ ولقد قيل مراراً إن مصر لا تقدم شيئاً لتسهيل السياحة، وإنها يجب أن تجاري الدول الأخرى في تنظيم بعض تسهيلات مغرية للسياح؛ ولكن من المحقق أن تكاليف السياحة في مصر هي أرخص منها في أي بلد من بلاد العالم، ويكفي أن تتقدم مصر بهذه الميزة للسائحين.
هذا وليس من ريب في أنه مهما كانت مسرات السياحة ومغرياتها فإن السائح يشعر في بلاد الغربة بنوع من الوحشة يعروه من آن لآخر، فإذا حان أوان العود شعر بنوع من الارتياح للتخلص من هذه الوحشة واستعادة الإيناس في الوطن والأهل.
ودعنا العاصمة النمساوية في صمت، وتزودنا بالنظرات الأخيرة من هاتيك الربوع والمعاهد الضاحكة، وازدلفنا إلى محطة الجنوب لنستقل القطار إلى (جنوة) حيث نستطيع اللحاق (بالكوثر) وكانت الشمس قد آذنت بالمغيب حين مررنا بجبال الألب قبالة (زيمرنج)، وهناك تأخذك الطبيعة بجمالها الرائع، وتمتد الأشجار والأزهار على الربى إلى مالا تدرك العين.
وفي ضحى اليوم التالي كنا في البندقية نتجول في ساحة سان ماركو، ونطوف بكنيسة سان ماركو وقصر الدوجات ونقطع (قنطرة الزفرات) ما بين القصر والسجن، ونتأمل هاتيك