الأولى داخلية وليدة الدين الذي نشأ بين أظهرهم، وكانت الثانية خارجية آتية من نقل علوم الأمم الأخرى، بينما في إنجلترا جاء هذا النقل عن الأقدمين أولاً ثم كانت النهضة التالية داخلية نتيجة لتحسين أبناء البلاد لما نقلوه من علوم غيرهم.
وقد أوفى العرب على الغاية في الشغف بالعلوم والجد في تحصيلها، وأظهر أمراؤهم من التقدير للعلم وأهله والرغبة في خدمته والبذل في سبيله ما لم يظهره ملوك دولة في التاريخ، وكانت رعايتهم للعلماء - بعكس ما كان تقريبهم للشعراء - جليل النفع بعيد الأثر.
وكان للعرب من اللغة العربية الرحبة الجوانب، الطيّعة الأسلوب، الغنية بطرائق الاشتقاق، خير معوان في جِدهم في درس العلوم، وامتلأت جوانب اللغة بضروب الدراسات والثقافات، وكان رقيها العلمي في عهد الدول الإسلامية يفوق كثيراً رقيها الأدبي: فبينما ظل أدباء الجاهلية دائماً أساتذة للمتأخرين يحتذونهم في الأدب، أمعن علماء الإسلام وفلاسفته في مذاهب من التفكير والبحث لم يسمع بها الجاهليون ولا خطرت لهم على بال.
ولم يقصر أدباء العربية عن غيرهم في تلك الحلبة العلمية المحتدمة، ولم يكونوا دون سواهم غفاً بالعلم وطلباً لشوارده، بل كان أكثرهم مثقفين ثقافة علمية وأدبية عالية، وقد تلقوا علومهم على طريقة عهدهم: فمن نشأ في يسار أُحضر له المؤدبون، ومن ترعرع في بيت علم وفضل قام أبوه بتأديبه، ومن قصر به جده عن هذا وذاك بين الأدباء واختلف إلى العلماء حيث كانوا يجلسون للدرس؛ أما المدارس والجامعات فلم تنشأ إلا متأخرة، قبيل بدء عهد الركود الفكري، ولم يكد يتخرج فيها عَلم من أعلام الأدب.
وكان من خصائص الثقافة الإسلامية ترامي أطرافها واختلاف أجناس الخائضين غمارها وشمولها شتى العلوم والمذاهب والعقائد من متفرق الأمم وامتزاج العلم بالأدب والدين بالفلسفة فيها، وقد ظهر أثر كل هذا في المؤلفين وفي مؤلفاتهم: كانوا طموحين في طلبهم العلم يبغون تمثُّل كل ما في عصرهم من مناحي التفكير، وكانوا كذلك طموحين في مؤلفاتهم يحبون أن يودعوها كل فن. ولو أردنا أن نشير إلى الأدباء الذين نالوا حظاً عظيما من الثقافة لأحصينا أكثر أدباء العصر العباسي الزاهي بين القرنين الثاني والخامس الهجري. ويكفي أن نذكر من الشعراء المعري الحكيم المعنى بشؤون الكون والفلك والحياة