وربما أضافوا إلى ذلك حج البيت الحرام. وكذلك جرت سنة الأدباء والمتعلمين عامة من ذوي اليسار الإنجليز على الارتحال بعد نيل درجاتهم العلمية إلى أوربا وخاصة إلى إيطاليا مبعث النهضة الأوربية، وربما أضافوا إلى ذلك الحج إلى آثار بلاد الإغريق مهد العلوم والآداب والفنون القديمة؛ ولهذه الرحلة عن الوطن - فضلاً عن كسب العلم ومصاحبة العلماء - أعظم الأثر في تكوين نفس الأديب وتوسيع أفق خياله.
وكان لانتشار الثقافة في الأمتين آثاره المتشابهة في الأدبين: فارتقيا خيالاً وأسلوباً وأغراضاً ومعاني، واتسعت جوانبهما، وظهر فيهما التفنن والصنعة المقصودة، وظهرت لغة علمية دقيقة التعبير بجانب لغة أدبية أنيقة التحبير، وظهرت روح النقد وتجلت نزعة الشك من جراء اصطدام العلوم المستحدثة بالعقائد الموروثة، واشتدت المنازعات الأدبية، واحتدمت المشادات بين أنصار القديم وأتباع الجديد، وظهرت آثار المذاهب الفلسفية واصطلاحات النظريات العلمية في رسائل الكتاب وقصائد الشعراء، ونبغ من المثقفين من يجمعون بين صناعتي العلم والأدب.
ولا ريب أن هذا الطور الثالث من أطوار رقي الأدب التي أُشير إليها في صدر هذه الكلمة - طور الحضارة والثقافة - هو أرقى ما يصل إليه الأدب وفيه ينال ما قدر له من أسباب الكمال، وفيه أنتج الأدب العربي خير نتاجه، فالأدب لا يبلغ غايته إلا في حضارة تحيط به، وثقافة تغذيه، وروح نقد تستحثه. وقد دام هذا الطور الأدبي في العربية زهاء ثلاثة قرون حافلة، تخلف لنا منها تراث زاخر يشهد بشغف العرب بالعلم وولوعهم بالأدب، ثم عملت عوامل الفساد السياسية والاجتماعية عملها، فاضطرب المجتمع، وجمدت الأفكار، ودخل الأدب في طور تدهوره الطويل.