حِواريّةٍ لا كشف أسرار الطبيعة. نعم لقد كنت تجاربه بديعة مألوفة، وكثيراً ما كانت تلذّ الفكر وتُمتع الخيال، ولكنها كانت مصطنعة اصطناعا، وكانت ترمى بعيداً عن الغرض الأهم الأخطر وهو كشف السر في أننا حصينون. كان له رأس يقدر على احتواء الكثير الشتيت من المعارف، فما كان أجدرها أن تتجه بكل حولها وذخيرتها إلى حل عقدة الحصانة، فتفسر لنا كيف أن الطفل قد ينشأ في مباءة من السل ثم هو لا يجيئه، بينما طفلة أخرى تُنَشَّأُ على قواعد الصحة في عناية وحذر فلا تبلغ سن العشرين حتى تموت من السل. هذه هي أُحْجية الحصانة المستغلة، وهي إلى اليوم أحجية مستغلة. فانظر ما كان يصنع تجاهها متشنيكوف؟ كان يقول: لا شك أن الفاجوسات في هذه الحالة لا تعمل عملها، فهي لا شك لأمرٍ ما تعطلت)، ثم هو يهرع إلى المعمل ليُدهش خصيمه بإثبات أن فاجوسات التماسيح تأكل بشلات حمى التيفود. وما للتماسيح وللتيفود وهو لا يصيبها أبداً!
وأخلص له مساعدوه في المعمل إخلاصاً نادراً عجيباً، فأذنوا له فأطعمهم بشلاّت حيّة خبيئة من بشلات الكوليرا ليثبت أن الدم لا دخل له في حصانتنا منها. وبلعَ البشلاتِ فيمن بلع شابةٌ من تلك الأوانس الجميلات اللاتي يسترشد بوجوههن ويستوحى من فتنتهن، ومضت سنوات أُغرم فيها باللعب بأرواح أعوانه البُحّاث وهم عبّاده الطائعون، وأقرّ بأنه إنما كان جنوناً ذلك الاغرام. وليس شيءٌ يعذره من هذا الاغرام ويصفح عنه هذا الإجرام إلا أنه هو نفسه لم يتأخر خطوة عن مسايرتهم بالمخاطرة بحياته، بل لقد بلع هو نفسه من أنابيب البشلات أكثر مما بلعه أيهم منها؛ وفي أثناء هذا التلاعب بالنار مرض أحد أعوانه مرضاً شديداً وظهرت عليه أعراض الكوليرا الأسيوية الصميمة، فندم متشنيكوف ندامة كبرى، وكان يقول في وجيعته وأساه:(أي جوبي! ليس لي بعد موتك حياة)، فلما سمعت أُلجا ذلك منه اتخذت حيطتها فلزمت زوجها الشهير ليل نهار خشية أن يعاوده خاطر انتحاره القديم؛ وكثيراً ما كان جاءه ولكنه لم يثمر ثماره أبداً. وفي ختام هذه التجارب الغريبة، أخذ من دم الناجين من أعوانه فحقنه في دم خنازير غينية، ثم حقن هذه الخنازير بزريعات من بشلات كوليرا حادة، فماتت هذه الخنازير ولم تنفعها دماء هؤلاء الرجال شيئاً. فاغتبط بهذا الفلاح، وكان يكره أشد الكره أن يكون للدم خطر في هذا أبداً، وكتب:(إن كوليرا الإنسان مَثَل آخر من أمثلة الأمراض التي لا يمكن أن يُعزى سبب لشفاء منها لمناعة الدم أصلاً).