وقد يكون من تلاميذه تلميذ وهبه الله مقداراً غير عادي من استقلال الرأي وحرية الفكر، فيقع في أبحاثه على خاصة عجيبة من خواص الدم، فيأتي إلى أستاذه يهمس في أذنه بالذي اكتشف، فإذا بالأستاذ تطول قامته، وترتفع هامته، وينتفخ صدره زهواً وكبراً كأنه موسى الكليم يهبط جبل الطور إلى الوادي؛ وإذا به يأمر بهذا الخارج الثائر الزنديق الذي لا يؤمن بنظريته أن تُحرق جثته، ثم هو يقوم على الجثة يفرغ ماء عينيه بكاء وقد عزّه العزاء وافتقد فيه الصبر والسلوان. لم يكن معمله بالمكان الهانئ الوادع السعيد للبحّاث الذين يطلبون الحقيقة الصرف. ومع هذا فإلى متشنيكوف يعزى بعض الفضل في اكتشاف طائفة من أعجب خواص الدم، ذلك لكثرة التجارب التي أجريت في معمله ولاختلاف عدد كبير من بحّاث متحمسين عليه فيه. مثال ذلك الباحث الشهير برديه جاء يعمل مع الأستاذ، والأستاذ في أكبر مجده وأذيع صيته. وكان برديه ابن معلم قرية صوني ببلجيكا؛ وكان حيياً لا يُؤبه لمظهره؛ وكانت به عادات من إهمال وقلة مبالاة؛ وكانت له عينان زرقاوان كالماء ذاهلتان لا تبصران شيئاً مما تقعان عليه، ولكنهما أبصرتا ما لم يبصره غيره من البحاث. بدأ عمله في معمل متشنيكوف، وأخذ يبحث في الدم يستجلي خفاياه، فاستجلى أموراً جليلة منه، وذلك في ظل لحية متشنيكوف وعلى صدى صيحته الصارخة بالفاجوسات وللفاجوسات. ووضع هذا البلجيكي أسس تلك الاختبارات العجيبة الدقيقة التي يختبر بها الدم اليوم في جنايات القتل ليُعرَف أهو من إنسان أو حيوان. وفي هذا المعمل قام بأبحاث أدّت بعد سنوات إلى اختبار الدم الشهير الذي به يُكشَف عن وجود الزُّهري في دم الإنسان، ذلك الاختبار المعروف اليوم باختبار فَسَرْمَنْ
على أن برْديه لم يَسلم من غضبات متشنيكوف أحياناً كثيرة، ولكن الأستاذ كان كثير العُجْب بتلميذه، وكان كلما وجد برديه في الدم شيئاً يضر بسمعة المكروبات - ومع هذا قد ينفع في تحصين الناس منها - أغمض متشنيكوف عينه على القذى كارهاً وقام يغري نفسه بإجراء تجارب لا بأس بها تثبت أن هذا الشيء الذي وجده برديه في الدم إنما جاء أصلاً من الفاجوسات. ولم يُقم برديه في معمل منتشنيكوف طويلاً. . . .
واقترب ختام القرن التاسع عشر، وتحوّل بحث المكروبات، فبعد أن كان يَنْفُر إليه كل مخاطر مغامر، أخذت تعالجه طائفة من شباب الأطباء انصرفوا إليه في هدوء وسلام وتؤدة