للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

واتصلت أرواحنا بالنفوس السماوية التي تعيننا على كشف الغيب في حال اليقظة والنوم. وليس للتصوف من غاية إلا هذا الارتباط؛ والإشراقييون يسعون إليه ما استطاعوا وكثيراً ما ينعمون به. أما لأنبياء فهم في اتصال دائم وسعادة مستمرة. يقول السهروردي: (إن النفوس الناطقة من جوهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذا القوي البدنية ومشاغلها، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية وضعف سلطان القوي البدنية بتقليل الطعام وتكثير السهر تتخلص أحياناً إلى عالم القدس، وتتصل بأبيها المقدس وتتلقى منه المعارف، وتتصل بالنفوس الفلكية العالمة بحركاتها وبلوازم حركاتها، وتتلقى منها المغيبات في نومها ويقظتها كمرآة تنتقش بمقابلة ذي نفس).

فالفلسفة الإشراقية التي دعا إليها السهروردي متأثرة في بدئها ونهايتها بتعاليم الفارابي، ذلك لأنها مؤسسة على نظرية الفيض الفارابية ونزَّاعة إلى العالم العلوي؛ غير أن هذه الفلسفة صوفية كلها أو التصوف هو كل شيء فيها، في حين أنه لدى الفارابي ليس إلا قطعة من مذهب متنوع الأجزاء. هذا إلى أن الإشراقي لا يقنع بالاتصال بالعقل الفعال وحده، بل يطمع في الاتحاد بالله مباشرة والامتزاج بنور الأنوار؛ فكأن السهروردي حين دعي للاختيار بين تصوف الحلاج وتصوف الفارابي رأى أن يجمع بينهما، وأن يقول بالاتصال والاتحاد معاً؛ وهذه نزعة توفيق أخرى تتفق مع روحه العامة.

هذا التصوف العقلي المبني على فكرة الفيض يبدو كذلك عند صوفي وفيلسوف آخر من رجال القرن الثالث عشر. ونعني به ابن سبعين المفكر النقادة الذي لم يُدرس بعد دراسة كافية، ولا ثقة به على الرغم مما في آرائه من حصافة وفي أفكاره من عمق ودقة. وعل أكبر مصدر نعتمد عليه في تعرف نظرياته هو المراسلات التي دارت بينه وبين فردريك الثاني ملك ألمانيا وإمبراطورها المتوفى سنة ١٢٥٠. وقد بقيت هذه المراسلات مجهولة إلى أن اهتدى إليها المستشرق الإيطالي أَمرِي سنة ١٨٥٣ في مخطوطة من مخطوطات أكسفورد تحت عنوان: الرسائل الصقلية. وبعده بنحو عشرين سنة قام بتحليلها في الصحيفة الأسيوية الفرنسية المستشرق الدنمركي المشهور مهرن. وقد وقفنا بأنفسنا على هذه المخطوطة فوجدناها مملوءة بالعلامات والملاحظات الدقيقة، وما أجدرها بأن تطبع وتنشر. وكلنا يعلم ما كان عليه فردريك الثاني من رغبة في العلم وحب للأدب والفلسفة

<<  <  ج:
ص:  >  >>