للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

العقبات، وخاض غمرات الأهوال. ولقد تجهمت له الأقدار في أول مرحلة من مراحل حياته، ولم تبتسم له إلا بعد أن كاد يهوي في غمرة اليأس، ولم يفرض وجوده وكفايته على خصومه إلا بعد أن لقي منهم شتى ضروب العنت والمناهضة.

ولا يتورع خصومه عن اتهامه بمجافاة وسائل الشرف في سبيل بلوغ غاياته، وتحقيق لباناته؛ بل لا يتعفف الوالغون في عرضه عن الجهر بأنه توسل بزواج جوزفين لتسلم قيادة الحملة الإيطالية.

هل وصل نابليون بكفايته وحدها أم نه كان يدين بمبدأ: الغاية تبرر الوسائل؟ وزواجه بجوزفين. هل أملته المصلحة، أم كان مبعثه الحب؟

مهما يزعم الذين يشوهون نابليون ويهدرون آدميته، فقد كان إنساناً بأوفى معاني الكلمة، له قلب يصبو للنساء، وعواطف تهوي إليهن؛ وإذ كان في ربيع العمر، فقد ترجم عن هذه العاطفة بإعلان رغبته في الزواج؛ وكان يغبط أخاه جوزيف على توفيقه في الزواج، وطلب يد أخت زوجته فلم تبادله حبا بحب، فتولاه اليأس منها؛ على أنه لبث يحمل لها في صدره أصدق عواطف الحب، فلما بات رب التاج والصولجان، وصاحب الهيل والهيلمان، زوجها ببرنادوت، وبوأ ديزريه كليري التي أخفق في حبها، عرش هولندا.

واستطاع نابليون أن يندمج في الأعمال الحربية، ويعمل في قسم الطبوغرافيا بلحنه السلام العام؛ فكيف كان سبيله إلى الوصول؟

لا نكتم الحق، ولا نكذب التاريخ، فقد دفع ثمناً غالياً في سبيل ما وصل إليه، وتوسل بذوي النفوذ وأصحاب السلطان وأقوياء الساعة لبلوغ ما بلغ؛ ولعله بذل من عزة نفسه، وطامن من كبريائه، وأراق من ماء وجهه، رجاء أن يطفئ شهوة الطموح التي كنت تضطرم نيرانها بين جوانحه.

ومهما حاول في رسائله أن يكتم آلام نفسه ويخفي جروح قلبه، فقد كان بائساً من الوجهتين الأدبية والمادية. ولقد طالما رآه الراءون يضرب على غير هدى في طرقات باريس، يسير بخطى هوجاء مضطربة، يحمل فوق رأسه قبعة تكاد تحجب عينيه، ويرتدي سترة رمادية أخذت فيما بعد مكانها في التاريخ. وإذ رأيت ثم رأيت ذراعين طويلتين تجنحان إلى الطول، وتضربان إلى السمرة، وقد جردهما صاحبهما من القفاز زعماً منه بأن تلك نفقة لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>