للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

غناء فيها ولا طائل تحتها، ورأيت في قدميه حذاء قد أسرع إليه البلى، وما كان يروعك منه إلا النظرة الهائلة، والابتسامة الخلابة اللتان تشرقان على مظهر ينم على مرض في الجسم والنفس معاً.

وكذلك كان نابليون يتهادى ببؤسه وحزنه في الطرقات. ولقد قالت مدام بورين إنه شهد معهم رواية في مسرح، وكان النظارة جميعاً ينفجرون بالضحك، فما راعها من نابليون إلا أن تراه وحده في مثل صمت القبور.

نعم، فلقد كان في ذلك الحين يحلق بخياله في جو غير جو المسرح، ويجهد قريحته في ابتكار وسيلة للعيش، ذ كان يرقب من ساعة لأخرى فصله من عمله. ولقد خيل إليه أنه شق طريقاً جديدة بالاتجار بتصدير أدوات المكاتب؛ على أن تصدير صندوق كتب إلى مدينة (بال) ما لبث أن أيقظه من حلمه اللذيذ إيقاظاً خشناً! ثم داعب الأمل بأن يأذنوا له في الشخوص إلى تركيا لتدريب جيش السلطان.

وما كان يلمح في الأفق بارقة أمل، وذهبت جهوده في تولون وإيطاليا أدراج الرياح، لأنه مني بوزير للحربية اسمه (أوبري) لا يقوى على فهمه، ولا يدري من الأمور الحربية كثيراً أو قليلاً. فأما الذين كنوا يظللونه بحمايتهم وهم (باراس) و (فربرون) و (مارييت)، وقد حارب تحت لواء الأولين، وانتشل الأخير من بين مخالب الدهماء في مدينة تولون، فقد كانوا يغذونه بالوعود.

على أن بارقة النجاح كانت تبدو في الأفق الذي لا يرقبه نابليون؛ وكان (بواسي دنجلاس) هو الذي أخذ بيده فرضعه في الموضع الذي تتجلى فيه مواهبه لتولي القيادة العامة.

وفي شهر يونيه من عام ١٧٩٥ ضاق (بونتيكولان) ذرعاً باضطراب إدارة الحرب في لجنة السلام العام، فأشار عليه (بواسي دنجلاس) أن يستعين بخبرة جنرال عائد من إيطاليا وهو كفيل بأن يبذل له أثمن النصائح وأغلاها.

فلما كان الغد قصد إليه نابليون، فما هاله إلا أن يرى الضعف والهزال ماثلين في شخصه. ولقد وعي التاريخ قوله: (رأيت شاباً أصفر اللون، مكفهر الوجه، مقوس الظهر، تبدو عليه مظاهر الضعف والمرض). على أن (بونتيكولان) قد استرعى نظره أن ذلك المخلوق الضعيف المهزول بصير بشؤون الحرب، فطلب إليه أن يدون كتابة ما ألقاه أمامه شفهياً،

<<  <  ج:
ص:  >  >>