للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وامتزج صراخ هذه بصريخ قردة الهندوس المقدسة ومواء الماكاكس المضحك الصغير ولم يلبثا أن وقعا على أمر خطير. وكانت تجاربهما لبقة بارعة، وكان بها حسن نظام ووضوح لم يعهدا في تجارب متشنيكوف. وأخذ يتردد على معملهما طائفة من مناكيد الناس أصابها الزهري حديثاً، ومن أحد هؤلاء لقّحا قرداً فنجحت فيه التلقيحة الأولى وسرى فيه الداء. ثم قضيا بعد ذلك أكثر من أربع سنين في عمل شاق ينقلان الداء من قرد إلى قرد، ويبحثان عن مكروبه الصغير الدقيق الخدّاع فلا يجدانه. ثم أخذا يُضْعفان سمّ الداء الذي استخرجاه وفشلا في رؤية المكروب فيه، وأخذا يضعفانه بالأسلوب الذي اتبعه بستور في إضعاف جرثومة الكلب رجاء أن يَخْرجا من ذلك على لقاح يقي منه. وماتت القردة من النيومونيا وبالسل موتة شنيعة، ووجد بعضها الفرصة إلى الهرب فهرب. وبينا متشنيكوف يجرح القردة لينقل سم الزهري إليها في غير خفة يد كبيرة انقضت عليه تعضّه وتجرحه. ثم قام متشنيكوف بتجربة غريبة إلا أنها تَنُمّ عن ذكاء كثير: خدش أذن قرد وسقاه في هذا الخدش من سمّ الزهري، وتركه أربعاً وعشرين ساعة، ثم عاد إليه فقطع أذنه، ثم امتحن جسمه فلم يجد بأي عضو منه أثراً من داء الزهري.

عندئذ صاح متشنيكوف: (إن معنى هذا أن جرثومة الداء تتريّث ساعات في الموضع الذي تدخل منه إلى الجسم، وفي الإنسان نعلم من أي عضو من أعضائه يدخل الجرثوم، ونعلم فوق ذلك متى يدخل فيه، إذن فلعلنا نستطيع أن نقتل الجرثوم، عند مدخله من جسم الإنسان قبل أن ينتشر فيه).

ثم قام فأجرى تلك التجربة الكبرى ذات الأثر العمليّ الواسع في أبحاث المكروب، أجراها بعد كل هذا الكلام الطويل العريض الذي قضى السنين يقوله ويكتبه في تعليل حصانة الإنسان، وأجراها وإلى جانبه رو يؤازره ويلح عليه بإعادة كل اختبار يأتيانه للتأكد منه. وفي هذه التجربة اخترع متشنيكوف مرهم كلورور الزئبق الذي به اليوم يطارد داء الزهري في جيوش البر وجيوش البحر في كل قطر من أقطار الأرض: أخذ قردين وجرحهما، ثم أعداهما حيث الجرح بمادة للزهريّ جاء بها صبيحةً من إنسان، وبعد ساعة دلك جرح أحد القردين بالمَرهم وترك الآخر، وأخذ بقية زمنه يرقبهما، فسَلم المرهوم وظهرت أعراض الداء فظيعةً بشعة على الآخر المتروك.

<<  <  ج:
ص:  >  >>