للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ثم عاود متشنيكوف جنونه الغريب القديم، فلما تملكه نسي نَذْره الذي كان وأغرى طالب طبّ شاب يُدعَى مازونيف بأن يتطوع له، فلما رضي جاء به في مجتمع محكّم من أكابر رجال الطب وعلمائه في فرنسا، وفي وسط هذا الجمع الموقّر وقف هذا الطالب المقدام ونظر إلى جلده وهو يجرح ست جراحات طويلة، ونظر إلى هذه الجراحات الخطيرة وجرثوم الزهريّ الخطير يُحَكُّ فيها. وكان مقداراً من الجرثوم أكثر كثيراً من المقدار الذي يدخل جسم الرجل الذي يصاب بالداء بالطريقة المألوفة في الحياة. واحتمل الطالب بقوة مصيره المخوف: رجلاً بشعاً مبثوراً منغّظ الجسم مأكوله، ثم يجيئه الجنون، ثم يجيئه الموت.

وجَرح متشنيكوف في الوقت نفسه وأعدى بالداء قرداً وشمبانزي، واصطبر ساعة يملؤه إيمان قوي، فلما انتهت قام يحكّ المرهم في جراح الشاب، ولم يفعل ذلك لا في الشمبانزي ولا في القرد. فأما الشاب فنجا فلم تظهر عليه بثرة واحدة من بثور الداء، وأما القردان فجاءتهما العاقبة المحتومة بعد ثلاثين يوماً: نتيجةُ لا ريبة فيها ونصر مبين.

وقامت قيامة الأخلاقيين ومنهم بعض الأطباء يَلْحَون متشنيكوف فيما صنع. قالوا: (إن داء لزهريّ عقوبة ينالها الآثم تكفيراً عن إثمه، وخشيتها تردع المتردّدين. فهذا العلاج الهيِّن السهل لهذا الداء يُزيل العقوبة ويذهب بالخشية فلا يكون منه إلا إشاعة الخطيئة في الناس). فأجابهم متشنيكوف: (إني حاولت فوجدت السبيل إلى منع هذا الداء أن يمتدّ، فقيل إني أسأت إلى الأخلاق، ولكن الأخلاق والأخلاقيِّين عجزت رُقاهم عن منع الداء أن ينتشر، وأن يصاب به بطريق العدوى البريئة أبرياء منه لم يَجنوه، فصار من الإساءة إلى الخُلُق الكريم أن نجد السبيل فلا نمنع انتشار هذا الداء الوبيل. .).

- ٨ -

وبنا هو في هذا كان يتلمّس الطرق ويختط الخطط ويحلم الأحلام عسى أن يجد سبباً آخر لتصلّب الشرايين، وإذا به يخترع هذا السبب الآخر - ولا أظن أن أحداً يود أن يقول اكتشفه. قال إن هذا السبب هو: (تسمم الجسم من ذات نفسه بانحلالات تعفّنية تحدثها بشلات وحشية في أمعائنا الغلاظ. هذا هو سبب لا شك فيه لتصلب شراييننا ولشيخوختنا قبل الأوان). ودبر اختبارات كيميائية يستدل بها على التسمم الذاتي للأجسام، وكانت

<<  <  ج:
ص:  >  >>