علوم الدين الذي أضحى عمدة المتصوفين المتأخرين بلا استثناء. نعم إن الغزالي يجهر هنا بنظريات متناقضة تنقض آراءه الكلامية والفلسفية، فتراه مثلاً يحارب محاربة عنيفة ويرفض رفضاً باتاً نظرية الاتحاد الحلاجية في كتاب الإحياء على حين أنه يميل إليها ويقول شيئاً يشابهها تمام المشابهة في كتاب مشكاة الأنوار، وهذه نقطة ضعف لاحظناها عليه من قبل، وعل تطوراً حدث في آراء الرجل هو السر في هذه النظريات المتناقضة، ومهما يكن فكتاب الأحياء هو مصدر التصوف السني من غير جدال، وعليه نعتمد أولاً هنا أولاً وبالذات، وهو الذي أثر وحده تقريباً من بين كتب الغزالي الصوفية في المتصوفين المتأخرين. وما كان الغزالي لينكر التصوف وقد ركن إليه بعد أن خبر الدراسات الأخرى ولم يطمئن إليها ووجد فيه حصنه الحصين. فهو يرى أن علم القلوب لازم لزوم علم المرئيات والملموسات، لأن هناك عالمين عالم الباطن وعالم الظاهر. فإذا كان بعض العلوم يتولى عالم الظاهر بالدراسة والشرح فلا بد من علم خاص لتوضيح عالم الباطن. والمعلومات نفسها ضربان: حسية وصوفية أو ظاهرية وباطنية؛ وفي هذا التقسيم ما يقابل أنواع العلوم التي أشرنا إليها من قبل. ولكن قد يقال إن وسلتنا في تعرف المعلومات الظاهرية هي الحواس فبأي طريق نستطيع الوصول إلى المعلومات الباطنية؟ والأمر في هذا يسير إذا ما رجعنا إلى الصوفية فإنهم يقولون إن التقشف والزهد والفضائل العملية جميعها سبيل إدراك الحقائق الخفية والإلهامات التي تجاوز عالم السمع والبصر. فالمعرفة إذن هي غاية التصوف السامية. أما اتحاد العبد مع الرب فهذه قضية منقوضة عقلاً وغير مقبولة نقلاً. وإذا شئنا أن نقارن بين تصوف الغزالي وتصوف الفارابي وجدناهما متفقين على رفض مذهب الحلول الذي ذهب إليه الحلاج والإلهام الذي يعمل له الغزالي يشبه من وجوه كثيرة الاتصال الذي جد في طلبة الفارابي. وكلا الرجلين يؤمن بوجود معارف باطنية وراء الحقائق الحسية، وهذه غاية الحياة العملية والنظرية ومقصد الصوفية والأنبياء. ولقائل أن يقول إن الغزالي يستمد إلهاماته من الله مبشرة على حين أن الفارابي يقنع بالاتصال بالعقل الفعال. ولكن هذا الفرق في الواقع سطحي فأن العقل الفعال في رأي فلاسفة الإسلام جميعاً ليس إلا فاصلاً معنوياً ومرحلة تدرج بين العبد وربه، وكل فيض مصدره الأخير والحقيقي هو الله جل شأنه. وعلى هذا يمكننا أن نستنتج من كل ما سبق أن