على أن تلك كلها أمثلة لتقلب الأذواق بتعاقب الأجيال، وهو أمر طبيعي لا محيد عنه. وقد خلا الأدب الإنجليزي أو كاد من تلك الظروف العاتية التي لابست الأدب العربي وتحكمت في مصاير رجاله: فقد شب الأدب الإنجليزي من عهد اليزابيث وقد اخترعت الطباعة، واطرد رقي الطباعة وانتشار الكتب والصحافة والتعليم مع اطراد رقي الأدب، ولم يخضع الأدب طويلاً لسيطرة الحكم، وظل مرد الأمر في تقدير الأدباء إلى الرأي العام المتعلم الذي يقوّم الأديب لفنه الخالص؛ فإن رانت على بصيرته غشاوة من تقليد موروث أو مذهب سائد أو مشادة محتدمة في السياسة لم يلبث بعد أن ينجلي ذلك أن يعود إلى إنصاف من أجحف بهم وإسقاط من لم يستحقوا سالف تقديره.
فإلى أمرين اثنين يدين أعلام الأدب الإنجليزي في مراحله المتتالية بنباهتهم وخلودهم: نبوغهم الشخصي، والذوق العام. وليس بين أقطابه الذين يعتد بهم من لا تؤهله عبقريته لما أوليه في تاريخ الأدب من مكانة، أو من هو مدين بخلود ذكره إلى أهواء السياسة أو أغراض الحاكمين أو دسائس الأحزاب أو تحريف الرواة أو عبث النقاد.
فالنابهون في الأدب الإنجليزي أكثر استحقاقاً لمكانتهم من النابهين في الأدب العربي، والخاملون المغبونون في هذا الأخير أكثر منهم في الأول؛ والأدب الإنجليزي بما أحاط به من ظروف مواتية أسهل تأريخاً ودرساً من الأدب العربي. وهذا الأخير محتاج إلى مراجعة ودرس طويل وتأريخ جديد غير التأريخ الذي جرى عليه العرف حتى الآن ليمنح كل أديب حقه من التقدم أو التأخير، ويُزَحْزَحَ عن الصدر من تؤهلهم له آدابهم ونظراتهم في الحياة، ويستنقذ من يستطاع استنقاذهم من غمرة الخمول.