للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فلقد جمع بيننا الدين واللغة والعادات، وألّف بيننا تاريخ الماضي، وأمل المستقبل وألم الحاضر، ووحّد بيننا الدم الذي جاء من نبعة واحدة. فأنى ننكر هذه الأخوّة وشاهدها فينا، ودمها في عروقنا؟

وكيف أجهل بغداد ولها في نفسي مائة صورة، وفي ذاكرتي عنها مالا أحصي من الأخبار والتواريخ والأشعار.

وبغداد عاصمة الإسلام، ومشرق شمس الحضارة، وحاملة راية العصر الذهبي الإسلامي، وأم الدنيا، ومنزل المنصور والرشيد والمأمون. . .

فدى لك يا بغداد كل قبيلة ... من الأرض (إلا) خطتي ودياريا

فقد طفت في شرق البلاد وغربها ... وسيّرت رحلي بينها وركابيا

فلم أر فيها مثل بغداد منزلاً ... ولم أر فيها مثل دجلة واديا

ولا مثل أهليها أرقّ شمائلاً ... وأعذب ألفاظاً وأحلى معانيا

وكنت أرانا نخاف هذه البادية ونحن على طريق مسلوكة، في سيارة متينة، ونمل من طولها نقطع منها ثمانين أو تسعين كيلاً في الساعة، ونشكو ومعنا اللحم والفاكهة والماء المثلج، ونتعب ونحن مضطجعين على المقاعد الوثيرة، ثم إذا وصلنا إلى الفندق نمنا أربع عشرة ساعة، لنستريح ونسترد الروح فأفكر في أجدادنا أي ناس كانوا؟. . . وكيف قطعوا هذه البادية وهم على ظهور الإبل، يخوضون لجة الرمل الملتهب، يلتحفون أشعة الشمس المحرقة، يتبلّغون من الطعام بتمرة، ويكتفون من الماء بجرعة، ثم إذا وصلوا قابلوا جيوشاً أوفر منهم عَدداً وعُدداً، فحاربوها وانتصروا عليها، وفتحوا بلادها. . . فأقول: هذا هو فرق ما بيننا وبين أجدادنا؛ هو الفرق بين الشاب منهم تصيبه ضربة في المعركة، فتقطع يده من كتفه وتلبث متعلقة به، فتؤذيه وتعيقه عن القتال، فيعمد إلى أصابع يده المقطوعة، فيدوس عليها، ثم يتمطى حتى يبترها، ثم يلقيها ويعود إلى جهاده، والشاب منا يزاحم المرأة على كل شيء هولها، فيخطر في الشارع كالعروس ليلة الزفاف، وإذا شاكته شوكة أو لفحته الشمس أوى إلى الفراش!

ولما كان ضحى الغد بدا لنا نخيل العراق، وأشرفنا منه على مثل الليل، فعرقت لماذا سمى العرب السواد سواداً، وذهبت أتذكر الفتوح وعهدي بمطالعتها قريب - فأحسّ بأني أسمو

<<  <  ج:
ص:  >  >>