للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

عن زماني وأعيش في أيام الصدر الأول - وأقدر بعد نظر المستعمرين وصحة رأيهم في تعطيلهم التاريخ الإسلامي في مدارسنا، وتنشئة أبنائنا على الجهل به والبعد عنه، لما لهذا التاريخ من العمل السحري على بث روح الشرف والنبل والقوة والعزة والفضيلة في نفوس شباب العرب، ولأنه شمس إذا طلعت كسفت هذه الأنوار الكهربائية التي أضاء بها الغربيون أرجاء تاريخهم فبدت تواريخهم سوداء مظلمة. . . وبدا وحده المشرق المنير.

وجعلت أتشوّق إلى بغداد - وأعرض في ذاكرتي صوراً منها حلوة، وأنتظر أن أرى مدينة المنصور بأسوارها المستديرة وأبوابها الفخمة - وألمح قبّتها الخضراء العالية المشمخرة، الذاهبة في السماء ثمانين ذراعاً طالعة علينا من عرض الفلاة، تضطرب صورتها في دجلة، ثم أذكر ليلة الثلاثاء لسبع خلون من جمادي الآخرة سنة ٣٢٩ وقد كانت ليلة مطر ورعد هائل وسيل شديد، فهوت هذه القبة التي كانت تاج بغداد - وعَلَم البلد، ومأثرة من مآثر بني العباس عظيمة، بنيت أول ملكهم وبقيت إلى آخر أيام الواثق، فكان بين بنائها وسقوطها مائة وثمانون سنة.

وأرى دار الخلافة - وقد قدم رسل ملك الروم على المقتدر، فرسم أن يطاف بهم في الدار، وليس فيها من العسكر أحد ألبتة، وإنما فيها الخدم والحجاب والغلمان، سبعة آلاف خادم، وسبعمائة حاجب، وأربعة آلاف غلام - قد جعلوا على السطوح والعلالي وفتحت الخزائن والآلات فيها مرتبة كما يفعل لخزائن العرائس، وقد علقت الستور، ونظم الجوهر وصف على درج غشيت بالديباج الأسود، وكان عدد ما علق في قصور المقتدر من الستور الديباج المذهبة المصوّرة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع. . ثمانية وثلاثين ألف متر، وعدد البسط في الممرات والصحون التي وطئ عليها القواد ورسل صاحب الروم سوى ما في المقاصير والمجالس من الأنماط وعشرون ألف قطعة. وأدخل الرسل من دهليز باب العامة الأعظم إلى الدار المعروفة بخان الخليل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهباً وفضّة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يدي شاكري بالبزّة الجميلة؛ ثم أدخلوا من هذه الدار إلى الممرّات والدهاليز المتصلة بحير الوحش، وكان في هذه الدار من أصناف الوحش التي أخرجت من الحير

<<  <  ج:
ص:  >  >>