وارتعش اللهب الأصفر وتشنج، وضرب لونه إلى الزرقة، ثم تمايل واحتضر. . . وطوانا الظلام في جوفه، ولم أعد أستطيع أن أرى وجهها ولا عينيها؛ وكانت ذراعاها تطوقان رأسي. . . لم أعد أحس بالكذب، وأغمضت عيني وغدوت لا أفكر. . . ولا أعيش في هذه الدنيا. . . وإنما فنيت بكليتي في لمسات يديها، في الإحساس اللذيذ، في النشوة العجيبة التي هيمنت على حواسي ومشاعري، وبدا الصدق في عملها هذا ووضح وبان. . وجاء من أعماق الظلام همسها وانياً غريباً مخوفاً:
(ضمني إليك. . أنا خائفة. . .).
وخيم الصمت ثانية. . . ثم همست مرة أخرى في صوت خافت جازع:
(إنك تود الصدق. . . وهل أنا أعرفه؟ حتى أنا. . . أود أن أعرفه. . . احمني. . . أوه. . . أي رعب!!).
وفتحت عيني وقد أخذ الظلام الشاحب يهرب من النوافذ العالية، ويتجمع على الجدران، ويختبئ في الأركان، ولاح من النوافذ شيء ضخم في بياض الموتى. . . كأن عين إنسان ميت تبحث عنا. . . كأن شخصاً ضمنا في قبضته الباردة. . . فالتصق كلانا بالآخر ونحن نرتجف، وهمست:
(أوه. . . . . . ما أفظع هذا!).
لقد قتلتها!. . .
قتلتها. . . ولما تمددت كتلة بشرية لا حس ولا حركة على النافذة ووراءها الحقول البيضاء تمتد وتتشعب وضعت قدمي على جسمها وانطلقت أضحك، وأقهقه. . . ولم يكن ضحكي ضحك المجنون، لا. . . لقد ضحكت لأن أنفاسي خلصت وصدري استراح، ولأن في أعماق نفسي السعادة والسلام والفراغ. . .
لقد انمحت من قلبي الدودة التي كانت تنخره، وانحنيت وأخذت أتطلع إلى العينين الميتتين، عينان نجلاوان تتعطشان للنور، بقيتا مفتوحتين شبيهتين بعيني تمثال من الشمع، العيون المستديرة القاتمة التي تبدو مغطاة (بالميكا) أستطيع الآن أن ألمسها بأصابعي، وأفتحهما وأسبهما ولا أرهب شيئاً ما، لأن شيطان الكذب والشك مات من هذين الإنسانين السوداوين المبهمين إلى الأبد، مات من هذين الإنسانين اللذين كثيراً ما ارتويا من دمي.