بالمليك في حضرته والإصغاء إلى حديثه والتمتع برؤيته، وحينذاك يحظون بالغبطة الدائمة والنعيم المقيم، وواضح أن هؤلاء الماثلين في الحضرة الملكية هم من فازوا بالسعادة الفارابية، والمليك الذي يرمز إليه ابن ميمون ليس شيئاً آخر سوى العالم الروحاني الذي نسعى إلى الاتصال به.
تأثر فلاسفة القرون الوسطى المسيحيون كذلك بكثير من الآراء الفلسفية الإسلامية، ولم يكن التصوف الفارابي بوجه خاص بالغريب عليهم، ذلك لأن المسيحية نفسها تشايع الأفكار الصوفية في جملتها وتدعو إلى قدر منها غير قليل، وإذا كانت الأشياء كلها صادرة من الله وعائدة إليه فخطيئة عظمى أن ينسى المخلوق خالقه أو أن يتراخى في السعي نحوه والقرب منه. على أن الوصول إلى الذات الأقدس ليس بالعسير في رأي المتصوفين المسيحيين، فإنا ندنو من الله كلما خففنا أحمالنا وعرضنا عن شواغل الحياة، وقد كتب المسيو جلسون أستاذ الفلسفة المدرسية المسيحية الآن في (كلويج دي فرنس)؛ وهو الحجة في هذا الباب فصلاً ممتعاً في نظرية الحب المسيحية وأبان ما انطوت عليه من مدلولات خفية ونزعات صوفية، ومحبة الله هي السبيل الذي يقربنا منه ويقودنا إلى السعادة الفارابية، ويجب أن نضيف إلى هذا أن السعادة التي تعشقها الفارابي تعتمد على قوة أخرى وتستمد نفوذاً آخر من سلطان عظيم، ألا وهو سلطان أرسطو الذي استولى على القرون الوسطى المسيحية استيلاء تاماً منذ القرن الثالث عشر للميلاد. فإن هذه السعادة أشبه ما يكون (بالأديمونيا) الأرسطية؛ وقد أسلفنا القول فيما بينهما من صلة. لذلك لم يتردد كثير من أنصار أرسطو المسيحيين في اعتناق هذه النظرية وإن حاربوا في عنف غيرها من آراء الفلاسفة المسلمين. فألبير لجراند وسان توماس يتحدثان عن عقل مقدس هو في الغالب ابن (للروح القدسية) التي أشاد بذكرها الفارابي من قبل. وسان توماس يقرر في وضوح أن سرور النفس وغبطتها تنحصر في تأمل الحقائق الأزلية. فالسعادة الفارابية أثرت إذن في يهود القرون الوسطى ومسيحييها على السواء، وليس بعزيز علينا أن نبين المصدر الذي أخذ عنه المسيحيون هذه النظرية، فقد قرءوا عنها شيئاً فيما ترجم من رسائل الفارابي إلى اللاتينية ووقفوا عليها مفصلة في مؤلفات ابن سينا وابن رشد وفي كتاب موسى بن ميمون المشهور (دلالة الحائرين) الذي استقى منه الغرب كثيراً من الأفكار