لم يقف أثر هذا الكتاب في نشر الأفكار الإسلامية عند القرون الوسطى، بل جاوزها إلى العصور الحديثة، وذلك أنا نجد لدى واحد كاسينوزا أو لَيْينتز آراء كثيرة الشبه بآراء فلاسفة الإسلام: فنظرية النبوة عند الأول تشبه شبهاً عظيماً النظرية التي أخذ بها الفارابي؛ ومشكلة العناية عند الثاني لا تختلف كثيراً عما قال به ابن سينا من قبل. ربما يبدو غريباً أن نحاول إثبات علاقة بين مفكري الإسلام وهؤلاء الفلاسفة المحدثين، خصوصاً وقد جرت عادة مؤرخي الفلسفة الإسلامية أن يقفوا بها عند القرون الوسطى. وما فكر واحد منهم، فيما أعلم، أن يدرس الصلة بينها وبين فلسفة العصور الحديثة دراسة منظمة. غير أنا نرى أن هذه الصلة جديرة بالبحث والدرس ومعتمدة على أسس تعززها؛ فقد عرف اسبينوزا كتاب دلالة الحائرين وعني به عناية كبيرة، كما عرفه ليبنتز وأثنى عليه ثناء مستطاباً فعلى ضوء هذا الكتاب نستطيع أن نحدد إلى أي مدى تأثر رجال العصور الحديثة بالأفكار الإسلامية. ويخيل إلينا أنا أول من تنبه إلى هذه العلاقات التاريخية، وقد حققناها فيما يتعلق بنظرية النبوة.
ويمكننا أن نلاحظ كذلك وجوه شبه بين نظرية السعادة الفارابية وبعض الأفكار الصوفية الحديثة، وخاصة لدى اسبينوزا الذي تربطه بالفارابي أكثر من علاقة واحدة. فكلاهما يعد السعادة غاية لمذهبه الفلسفي؛ ويعملان على تحقيقها بوسائل متماثلة. وكلاهما صوفي النزعة في سلوكه وآرائه، وتصوفهما عقلي نظري مبني على العلم والدراسة. ونظرياتهما الكلامية متقاربة ومتشابهة؛ فصفات البارئ عند الفارابي لا تختلف كثيراً عنها لدى اسبينوزا. الله في رأيهما علم ومعلوم وعالم في آن واحد، وهوية وماهية معاً؛ هو مسبب الأسباب والجوهر المطلق أو الجوهر الوحيد. فهو موجود بنفسه وجوداً أزلياً قديماً، وكل الكائنات تستمد جودها منه. وعلى هذا نرى أن الفيلسوف العربي والفيلسوف الإسرائيلي يقولان بمذهب وحدة الوجود. وإذا كانت النفوس البشرية قد استمدت وجودها من الله فهي دائماً في نزوع إليه؛ وكمالها في أن تتجه نحوه وتقترب منه وتحبه حباً صادقاً. وهذا هو الحب الفلسفي الذي يتغنى به اسبينوزا، ويرى فيه لذة لا تنقطع وغبطة تجل عن الوصف.
الآن وقد تتبعنا نظرية السعادة الفارابية منذ نشأتها إلى أن أسلمناها إلى العصور الحديثة