نستطيع أن نقرر أن المشائين من العرب أثروا فيمن جاء بعدهم تأثيراً واضحاً. فأفاد منهم مفكرو الإسلام لا فرق بين متطرفيهم ومعتدليهم في نواح كثيرة، وإن تحاملوا عليهم وحاربوا معظم نظرياتهم. وأخذ عنهم رجال الفلسفة المدرسية من يهود ومسيحيين كثيراً من آرائهم وأفكارهم. ولم يقف أثرهم عند القرون الوسطى بل تعداها إلى العصور الحديثة، وقد أوضحنا فيما سلف وجوه الشبه بين بعض النظريات الفارابية والآراء الأسبينوزية، نحن لا ندعي طبعاً أن الفلسفة الإسلامية أثرت تأثيراً مباشراً في رجال العصر الحديث وجماعة الديكارتيين بوجه خاص؛ فأن أحداً منهم لم يعرف العربية. ولكن الأفكار الإسلامية نفذت إليهم، فيما نعتقد، عن طريقين: طريق اليهود وطريق المسيحيين، ففيما كتب موسى بن ميمون مثلاً أو سان توماس ما يحكي بعض الأبحاث الإسلامية. وإذا كانت الفلسفة الإسلامية نفسها لا تزال غامضة ومجهولة، فبديهي أن يبقى أثرها في طي الخفاء، ولا سيما إذا كان هذا الأثر متعلقاً بناحية يزعم الناس أنها بمنأى عن التأثير. فقد شاع خطأ أن ديكارت يفصل فصلاً تاماً بين عهدين، وأنه أب لفلسفة لا تحمل في ثناياها شيئاً من آثار الفلسفات السابقة، غير أن هذه الفواصل المزعومة بين العصور قد انمحت، وهذه السدود المقامة باطلاً بين مراحل التفكير الإنساني قد انهارت. وقد ثبت فعلاً أن ديكارت سبق إلى كثير من أفكاره في القرون الوسطى المسيحية، كما أن مذهب ليبنتز مثلاً يقترب من الفلسفية المدرسية والإغريقية بقدر قربه من النظريات الديكارتية. فلم لا نحاول بدورنا أن نوازن بين شك ديكارت وشك الغزالي؟ ولم لا نبحث عن أصل للتفرقة الأسبينوزية بين الذات والوجود عند الفارابي كما بحثنا عنه لدى كثير من الفلاسفة المتقدمين، إنا إن فعلنا خدمنا القرون الوسطى والتاريخ الحديث، وألقينا جزءاً من الضوء على طائفة كبيرة من النقط الغامضة، وقمنا بقسطنا في ربط الفلسفة الإسلامية بسلسلة التفكير الإنساني.
ولنا رجاء آخر، وهو أن تتجه الجهود نحو العصور المتأخرة من تاريخ الثقافة الإسلامية؛ فإن ما كتب عنها لا يكاد يذكر ومعلوماتنا عنها محدودة للغاية. وقد حاول هورتن في أبحاث متفرقة أن يوضح جانبها الفلسفي؛ إلا أن أبحاثه غير ناضجة، وهي أشبه ما يكون بمقدمات لدراسة كاملة لم تبدأ بعد. وأما اللغة والتشريع والتوحيد والتصوف فلا تزال في طي الكتمان تماماً. ومن غريب المصادفات أن أحد قراء (الرسالة) بعث إلينا، ونحن نكتب هذه