للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مادة الشعر وصميمه، ولربما عَرَضَ في القصيدة قد نُظمَتْ في أي غرض كان بيتٌ أو بيتان يحويان وصفاً طبيعياً بديعاً، فإذا هما يرفعان من قدرها ويحببانها إلى النفوس ويكونان سبب اشتهارها وسيرورتها.

ولا ندحة عن القول بأن الطبيعة لم تنل هذه الرعاية ولم تحتل هذه المكانة في الأدب العربي، ففي العربية لا ريب أوصاف طبيعية بالغة غاية الجودة، ولكنها قليلة إذا قيست بنظائرها في الإنجليزية، قليلة إذا قيست بما نظم أو نثر في العربية ذاتها في غير الطبيعة من أغراض، فليس ما قيل في وصف جمال الطبيعة ببالغ عشر معشار ما قيل في التشبيب بالجمال الإنساني، ولم يُعرف من شعراء العربية من قَصرَ شعره على التغني بمباهج الطبيعة، وإن منهم لَمنْ قَصرَ قوله على النسيب بهند وليلى وأترابهما.

وقلما جاءت أوصاف محاسن الطبيعة مقصودة لذاتها مستقلة بنفسها في قصيدة أو رسالة، بل كان ذكرها غالباً يأتي عرضاً كأنها غير جديرة وحدها بالتفات الشاعر وتكلُّفه عناء النظم، وكانت تستعار مظاهرها وأحوالها لبيان أغراض أخرى عن طريق التشبيه تُرصَّعُ القصيدة بفنونه، وجاء أصحاب المجموعات الشعرية الذين اختاروا صفوة أشعار العرب في أقوى عصور الأدب، كأبي تمام والمفضل الضبي، فما أفردوا للطبيعة باباً من أبواب مختاراتهم، وإنها لأجدر بالصدر.

وكان فحول الشعراء ينصرفون عن وصف محاسن الطبيعة التي تكتنفهم، ومفاتن الجنات الزاهية التي كانت مهاد الدولة الإسلامية، بمروجها وأنهارها وجبالها وأجوائها، إلى وصف قصور الأمراء وحدائقها ونافوراتها وبركها الصناعية، فالبحتري يعرض ببصره عن جبال لبنان الفاتنة متجهاً إلى مقاصير ابن خاقان:

تلفتُّ من عليا دمشق ودوننا ... للبنان هضب كالغمام المعلق

إلى الحيرة البيضاء فالكرخ بعدما ... ذممت مقامي بين بصرى وجلق

رباع من الفتح بن خاقان لم تزل ... غنى لعديم أو فكاكا لمرهق

ولابن المعتز وابن حمديس وابن خفاجة شهرة بوصف الطبيعة، ولكن كثيراً من أشعارهم يتسم بالفتور ويصطبغ بالصنعة وترين عليه مسحة التكلف والتظرف، وتنقصه حرارة الهيام بالطبيعة والامتزاج بروحها والنفاذ إلى خفي معانيها وأسرارها، وتجري في أشعارهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>