تشبيهات تكررت حتى مُلَّت: فالأصيل ذهب والحصباء در والنسيم ينسج من الماء درعاً، ويُفسد الكثير من تلك الأشعار الحرصُ على حسن التعليل كقول ابن حمديس في نهر:
جريح بأطراف الحصى كلما جرى ... عليها شكا أوجاعه بخريره
فشتان بين خرير النهر الحي المتدفع وبين الجراح والشكوى والأوجاع، وأمثال هذا القول تدل على شعور زائف وملاحظة سطحية.
وبعض أولئك الشعراء إذا استهزتهم فتنة الطبيعة وصفاء الأوان، نظموا في ذاك أبياتاً شفعوها للتو بدعوة لصديق أو عشيق أو نديم يناشدونه أن يتحفهم برفقته ويعجل لهم بالراح والأوتار، فالبحتري بعد أن تأنق في وصف الربيع قال:
فما يحبس الراح التي أنت خلها؟ ... وما يمنع الأوتار أن تترنما؟
وغيره يقول:
ولما حللنا منزلاً طله الندى ... أنيقاً وبستاناً من النور حاليا
أجد لنا طيب المقام وحسنه ... مني فتمنينا فكنت الأمانيا
ولا يدل هذا على كبير شغف بالطبيعة أو حسن فهم لجمالها، وليس بمشغوف بالطبيعة ولا فاهم لأسرارها من لا تكفيه مفاتنها السافرة حتى يستعين لإكمال سروره بالسَّمَر والغزل والغناء والسكر، وإن أحب ما تكون الطبيعة إلى عاشقها الصادق لحينَ يصحبها وحيداً، فهو يرى مفاتنها خير رفقة له وخير مؤانس لمهجته.
وقد حظي الربيع دون غيره من الفصول بالتفات شعراء العربية، كأن الربيع وحده هو فصل الجمال والصفاء والحبور، وبقية الفصول أوانٌ لكسب الرزق واحتمال قبح الحياة، كما قال الطائي:
دنيا معاش للورى حتى إذا ... جاء الربيع فإنما هي منظر
ولو درى لعلم أن هذه الدنيا منظر لمن شاء أن يرى ويشعر في كل الفصول وفي جميع حالاتها ومظاهرها، وإن للشتاء لروائعه وجاذبيته كما للربيع، وإن جميع مجالي الطبيعة وأشكالها لمسارح للب الشاعر ومجالات لفنه وتصويره، وقد تغنى شعراء الإنجليزية بفتنة الخريف كما ترنموا بسحر الربيع، واستجاشهم غضب اليم وتجهُّم الأفق كما استهواهم صفاؤهما ووداعتهما.