بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا. وكانت منها طائفة أخرى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به)
والغرض الذي يرمي اليه المؤلف من إيراد هذين الحديثين هو أنه أن يستخلص منهما القيمة المعنوية لنفوس الصوفية والإبانة عن أن هذه النفوس كانت أكثر قابلية من غيرها لما جاء به ودعا اليه من الهدى والنور رسول الله (. وان حظها من صفاء السرائر ونقاء الضمائر وذكاء القلب أوفر من حظ غيرها، فنفوس العلماء الزاهدين زكت.
وسرائرهم صفت، وقلوبهم صقلت وتهيأ لها من العلم حظ لم يتهيأ لغيرها من النفوس. وبعبارة أخرى كانت هذه النفوس كأوعية للعلوم كما قال مسروق عن أصحاب رسول الله. وقلوب الصوفية واعية لأنهم زهدوا في الدنيا بعد أن أحكموا أساس التقوى. ومن هنا زكت نفوسهم بالتقوى وصفت قلوبهم بالزهد. فكانت تقواهم عونا لهم على أن تصقل مرايا سرائرهم وتجلى صفحات ضمائرهم. وكان زهدهم عونا لهم على أن ينصرفوا عن الدنيا وعلى أن يقبلوا على الدين اقبالا من شأنه أن يقربهم من الله ويوحدهم معه ويفنيهم فيه.
يأخذ المؤلف بعد هذا في إظهارنا على مكان العلوم الصوفية بين العلوم الإسلامية الاخرى. فذكر من هذه العلوم التفسير والحديث والفقه وأصول الفقه والخلاف والجدل. ثم أخذ يعرض علينا تفاسير مختلفة للآية الكريمة (أنزل من السماء ماء) وانتهى من هذه التفاسير إلى تطبيق ما اشتملت عليه الآية بالنسبة إلى العلماء الذين تخصص كل منهم في فرع من هذه العلوم التي ذكرها آنفا. ثم انتهى من هذا كله إلى أن الماء الذي أُنزل من السماء هو العلم وإلى أن أوعيته هي القلوب، فمن هذه القلوب ما سال واديه بالتفسير فكان علم التفسير. ومنها ما سال بحفظ رواية الحديث وسنده وتمييز صحيحه من سقيمه فكان علم الحديث. وعلى هذا النحو من التأويل والفهم يمكنك أن تقول في غير علمي التفسير والحديث ما قيل في كل من التفسير والحديث، وأما علوم الصوفية فنشأت من أن نفوسهم قد أحكمت أساس التقوى وزهدت فيما اشتملت عليه الدنيا من عرض زائل وزخرف حائل. فسالت أودية قلوبهم بما انصب منها من مياه العلوم التي اجتمعت فصارت هذه القلوب أخاذات.