وقد سقت عباراته بعضها وراء بعض ولكنه كان يتنحنح كثيراً ويمسح العرق المتصبب بمنديل كبير فلم يسعني إلا أن أضحك فما استطعت أن أفهم لماذا رأى من واجبه أن يجشم نفسه هذا البيان أو الاعتذار. . . لست أباه ولا أخاه ولا أنا وصي عليه ولا لي عليه أي سبيل. . .
وقد حال الضحك دون الكلام - أعني دون الجواب - فصافحته وتركته يمسح عرقه.
وركبت الترام مرة وكان الجالس أمامي في يده جريدة يتأمل صفحتها المصورة وكنت أنا أتسلى بالنظر إلى الطريق من النافذة التي وراءه فرأيت فتى علق ثوبه الفضفاض بدراجة ولم يستطع تخليصه منها فجعل يجري معها وراكبها لا يعني بالوقوف فابتسمت وكانت الدراجة تساير الترام فظللت أتبسم ولولا الحياء لقهقهت وإذا بجليسي يتكلف الابتسام ويتحركفي مقعده ويقول فجأة - فما كان بالي إليه بل إلى المنظر الذي وراءه - (الحقيقة أن الفن الصحفي تقدم جداً)
فسعل وقال:(الإنسان معذور إذا بدأ بصفحة الصور وما فيها من المناظر الجميلة)
فاستغربت كلمة (المناظر) وسألته (المناظر)
قال:(أعني صور الفتيات الجميلات. . . ولكني لا أشتري الجريدة لهذا وحده. . . . لا لا لا أعوذ بالله. . أرجو ألا تكون جعلتني من هذا الفريق الذي لا يعنيه من الصحف إلا صور النساء لا لا لا. . . . أؤكد لك أني أقرأ. . . . أقرأ. . . . أقرأ كل شيء
قلت: (طبعاً. طبعاً. . . ظاهر يا سيدي ظاهر)
قال:(ثم إني موظف ورب عائلة. . لي زوجة وأولاد. .)
فهممت بأن أقول له إن كونه رب أسرة وذا زوجة وأولاد لا يبدو أنه منعه أن يعترف لي - وأنا غريب بما أراد أن ينفيه ولكني لم أقل شيئاً واكتفيت بالابتسام ونزلت عند أول محطة وقفنا عندها.
الحقيقة التي أعترف بها أن طبيبي هذا لم يكن مخرفاً فقد أفادني الابتسام صحة وعافية وانشراحاً وزاد فعلمني ما لم أكن أعلم، وإذا كان القارئ في شك مما أقول فما عليه إلا أن