للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ظهر عذره: علم ابليس أن هذا في صلب آدم فلم يسجد له، ولو عرض على كلاب اليهود أن تسجد لنسمةٍ هذا في ظهرها ما فعلت.

ونحو هذا من أنواع الهجاء القاسي.

وهو مع هذا أديب ظريف له نظرات في الأدب جميلة يقول: إن أفضل الكلام ما اعتدلت مبانيه، وعذبت معانيه، واستسلس على ألسن ناطقيه، ولم يستأذن على آذان سامعيه.

وقد هجا بعض الناس شيخا من شيوخه فقال سيبويه:

ما يضر البحر أمسى زاخرا ... أن رمى فيه صبي بحجر

وسمع بيت المتنبي:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدواً له ما من صداقته بد

فقال هذا كلام فاسد، لأن الصداقة ضد العداوة ولو قال:

ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى ... عدوا له ما من مداراته بد. . لكان أحسن وأجود

وبلغ المتنبي هذا النقد فذهب إلى سيبويه وسمعه منه فتبسم وانصرف، فصاح سيبويه: انبكم!

ومع هذا فلما سمع قول المتنبي:

ما كنت آمل قبل نعشك أن أرى ... رضوى على أيدي الأنام تسير. . الخ

صاح سيبويه لبيك لبيك! أنا عبد هذه الأبيات.

مما يدل على ذوق حسن ونقد صحيح وتقدير للأدب. ولقد كان عالي النفس، دقيق الحس، يرى الناس كلهم دونه، فلا يذل لعظيم، ولا يهين لكبير، طلبة أنوجور بن الإخشيد أمير مصر لينادمه، فقال على شرط أن أنزل حيث تنزل، وأركب حيث تركب، وأجلس متكئا، فأجابه إلى شرطه.

وكان سيبويه يحدث عظيما فجاء خادم يسر حديثا إلى هذا الجليس فسمع له وقطع الاستماع لسيبويه. فقام سيبويه مغضبا، فسأله إلى أين؟ قال لا تجالس من لا يرى مجالستك رفعة، ولا تحدثن من لا يرى حديثك متعة، ولا تسألن من لا تأمن منعه، ولا تأمرن من لا تأمن طوعه.

ولما ماتت أم سيبويه حضر في جنازتها كل كبير في مصر الا ابن المادراني الوزير، وعاد

<<  <  ج:
ص:  >  >>