وبالرغم من أن العربية على هذا الاعتبار أحدث اللغات السامية إلا أنها تعتبر عادة أقرب صلة من أية واحدة أخرى إلى النموذج الأصلي السامي الذي اشتقت جميعها منه، كما هو الحال في العرب - تبعاً لمركزهم الجغرافي وحياتهم الصحراوية المطردة التناسق - فقد حافظوا على الطبع السامي وظل فيهم - لاعتبارات خاصة - أنقى وأبرز مما هو عند بقية الأمم المتفرعة من هذا الجنس. ومنذ عصر الفتوح الإسلامية الكبرى (٧٠٠ م) حتى اليوم نشر العرب لغتهم ودينهم وثقافتهم في مساحة كبيرة من المعمورة تفوق كل ما كانت تشمله الإمبراطوريات السامية القديمة. حقاً إن العرب لم يلبثوا طويلاً على الحال التي كانوا عليها خلال العصور الوسطى، فلم يعودوا الأمة المسيطرة على العالم، إلا أنهم قد استعاضوا عن ضياع السلطة الزمنية بالجد في نشر سلطانهم الديني. ولا يزال الإسلام حتى اليوم الحاكم الأعظم لآسيا الغربية؛ أما في أفريقيا فهو في تقدم مستمر، حتى في أوربا، فقد وجد في تركيا عوضاُ له عن طرده من إسبانيا وصقلية. وبينما نرى أن معظم الشعوب السامية قد امحت غير مخلفة وراءها سوى ثبت طفيف غامض لا نأمل من ورائه أن نلم بتاريخها تماماً نرى في دراستنا للعرب مادة وفيرة تساعدنا على دراسة معظم أطوار تقدمهم منذ القرن السادس للميلاد، تساعدنا على كتابة التاريخ العام للحياة والتفكير عندهم. ولست في حاجة لأن أقول إن هذا الكتاب لا يحاول أداء هذه المهمة حتى ولو زاد حجمه مراراً؛ إذ لا بد من انقضاء زمن طويل قبل أن يقتحم الباحث ميدان الأدب العربي الواسع المناحي المختلفة، وقبل أن تكون النتائج مقبولة لدى المؤرخ
لم يكن (الربع الخالي) فحسب - الذي يخترق شبه الجزيرة ويقوم فاصلا طبيعيا دون الاتصال بالداخل - هو الذي يقسم بلاد العرب منذ القديم إلى قسمين: شمالي وجنوبي، بل كان هناك أيضاً العداء الناشب بين جنسين بينهما بون شاسع من ناحية الطبع وأسلوب العيش. فبينما كان سكان القسم الشمالي (الحجاز وهضبة نجد الوسطى) بدوا غلاظاً يسكنون بيوتاً من الوبر وينتقلون من مكان إلى آخر انتجاعا للعشب والكلأ لأبلهم كان أهل اليمن معروفين لدى التاريخ - قبل كل شيء - كورثة لحضارة تالدة وأصحاب ثروة ضخمة خيالية من الطيب والذهب والأحجار الكريمة تحت إمرة الملك سليمان. وقد تكلم بدو الشمال اللغة العربية - أي لغة قصائد العصر السابق للإسلام والقرآن - على حين