كلا؛ فهو ما شعر قط بلذة الروح - هذه اللذة العالية التي ترفع بصر الإنسان إلى ما فوق المادة وتجعل القلب يخفق بأنبل العواطف وأشرفها - تعتور نفسه، وتشعرها برعشة تهتز لها أضالعه وتختلج جوانحه. كلا! إنه لم يعرف من الحب سوى المعنى الوضيع الذي تولده حيوانيته، وجهل ومازال يجهل المعنى الرفيع الذي تولده نورانيته، والذي يضئ الروح بنور الفضيلة والهدى والحق. . .
لقد كانت أهواؤه شغل حياته الشاغل، إذ هو لا يجيد من فنون الحياة إلا فن الإغراء والإغواء والمخادعة. . . وما فكر قط أن آخرة مؤلمة ستنتج عن حياة الطيش والفوضى؛ لقد انتهى موفق إنفاق ما في خزائن المتجر وتجاوزها إلى رأس المال، فأفلست التجارة. . ولم يجد الدائنون بداً من عرض جميع ما يملك موفق وأسرته في المزاد العلني، فبيع المنزل وجميع مفروشاته الفاخرة، وبيعت الحديقة الغناء الواسعة الجوانب التي تحيط به من جميع أطرافه، ونزحت الأسرة المنكودة عن البيت بعد أن نعموا باجتماع الشمل حقبة، وراح موفق ينشد العمل في كل مكان فلم يعثر عليه إلاَّ بعد جهد جهيد مقابل أجر زهيد يكاد لا يكفي نفقته ونفقة أخته التي تقاسمه الحياة وتشاطره البؤس. . .
أحس موفق حين رجع بذكرياته إلى هذه الذكرى المؤلمة، كأن هزة عنيفة تعتري جسمه فانتفض واختلج، وشعر كأن شيئاً أخذ يحز في نفسه حزاً مؤلماً، فانتصب واقفاً وغادر حافة البركة التي كان جالساً عليها يداعب مياهها، وأخذ يجول بنظره في أطراف الحديقة، ويتلفت يمنة ويسرة، يحدق بكل ما يبصر، ويصغي إلى كل ما يسمع، فإذا به يشاهد براعيم الأزاهر ترنو إليه وترفع نحوه أكمامها المتضوعة العبير تشكو ظمأها، فاقترب من البركة وأخذ إبريقاً من المعدن الأبيض وملأه وسقى الأزاهر وبلل أغصانها بقطرات الماء النمير، ثم بعد ما فرغ من سقيها أخذ وعاء صغيراً ووضع فيه دقيقاً خلطه بماء، ثم أخذ يعجنه حتى إذا تماسك قدمه إلى حمامة سمعها تنوح شاكية له جوعها. . .
وهكذا تعزى دون جوان المنهزم عن عزه الغابر المفقود بإطعام الحمام وسقى الأزهار!