والإلهام. ولم يحاول واحد منهم أن يسأل عن النبوة في سرها وأساسها، ولا عن المعجزات في عللها وأسبابها. وآمنوا إيماناً صادقاً بكل ما جاء من عند الله دون بحث أو تعليل. وقد عنوا من الفجر الأول للإسلام بالرؤيا وتعبيرها ووضعوا في ذلك أبحاثا مستقلة لم تلبث أن كونت علماً خاصاً. وإنا لنجد بين التابعين تلك الشخصية الجليلة المعروفة بين رواة الحديث، وهي شخصية ابن سيرين التي كانت تعد حجة في تأويل الأحلام وتفسيرها. وعل هذا في الغالب هو السر في أن المتأخرين نسبوا إليها في هذا الباب كتباً ليست من صنعها.
بيد أن هذا التسليم الهادئ لم يطل أمده، وهذا الإذعان الفطري لم يبق في مأمن من الشكوك والأوهام. فقد اختلط المسلمون بعناصر أجنبية مختلفة نفثت فيهم كثيراً من سمومها، لم ترع أصلاً من أصول دينهم إلا وضعته موضع النقد والتشكيك والتضليل. ولا غرو فقد كانت هذه العناصر موتورة من الدين الذي ألغى أديانها ومن الحضارة الجديدة التي سلبتها مجدها وعزها. لذا تألبت في كل جموعها، وأخذت تحارب الإسلام بشتى الوسائل لتثأر لنفسها ودينها وتسترد نفوذها وسلطانها، ولكنها عبثاً حاولت وباءت بالخيبة والفشل:(إنا نحن نزَّ لنا الذكر وإنا له لحافظون). فالمزدكية والمانوية من الفرس، وأنصارهم من زنادقة سادة العرب، بدأوا في القرن الثاني للهجرة ينشرون دعوة التثنية ويهدمون فكرة التوحيد التي قام عليها الإسلام. وكلنا يعلم خبر بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس الثنويين اللذين كانت لهم مجالس خاصة تذاع فيها الآراء المزدكية والمانوية السمنية وغيرهم من براهمة الهند أخذوا في ذلك العهد نفسه ينادون بتناسخ الأرواح، وينكرون النبوة والأنبياء، ولا يرون حاجة البشر إليهم. وصاحب الأغاني يقص علينا حديث جرير بن حازم الأزدي السمني وما كان بينه وبين عمر بن عبيد في البصرة من حوار ونقاش. وملأ اليهود كتب الحديث والتفسير باسرائيلياتهم، وقالوا بالرجعة والتشبيه وخلق القران كما قالوا بخلق التوراة من قبل. وأرسل آباء الكنيسة على المسلمين شواظاً من أسئلتهم واعتراضاتهم المتعلقة بمشكلة الجبر والاختيار فزادوها تعقيداً، وشغلوا الناس بها فوق عرفهم ومألوفهم، وذهبوا إلى إنكار أبدية عذاب النار فقال الجهم بن صفوان معهم إن الجنة والنار يفنيان ويفنى أهلهما واجترأ الدهرية على أن ينكروا البارئ جل شأنه والعقاب والمسؤولية، وقالوا إن هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.