وقد سل المعتزلة وغيرهم من مفكري الإسلام لهؤلاء وهؤلاء سيف الحجة والرهان وجادلوهم جدالاً قد لا نجد له نظيراً في تاريخ الأديان الأخرى. فأبلى واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد بلاء حسناً في معارضة بشار بن برد وصالح بن عبد القدوس. وناظر أبو الهذيل العلاف الثنوية في البصرة وهدى بعضهم إلى الإسلام. وكان للنظام، وهو أحذق الجدليين في الشرق، قدم صادقة في مناقشة الزنادقة والدهرية والديصانية. ثم جاء من بعده تلميذه الجاحظ فسار على سنته، وبذل في هذا النضال همة طائلة ومهارة فائقة، واستعان عليه باطلاعه الواسع وأسلوبه العذب وقلمه السيال. وفي كتاب الانتصار لأبي الحسين الخياط المعتزلي الذي طبع في مصر أخيراً تفاصيل كثيرة عن هذه الملاحم الكلامية والمعارك الجدلية. وكثر الحوار بين المسلمين والنصارى من جانب وبين المسلمين واليهود من جانب آخر. وأخذت طائفة من الإسماعيلية على عاتقها رد شبه مفكري النبوة والأنبياء ومعجزاتهم. وفي اختصار كان القرنان الثالث والرابع للهجرة - أو التاسع والعاشر للميلاد - ميداناً فسيحاً لجدال عنيف شمل معظم أصول الإسلام ومبادئه.
وليس هناك شك في أن التسليم بالوحي والمعجزة ألزم هذه الأصول وأوجبها؛ فإن منكري النبوة ينقضون الدين من أساسه ويهدمون الحضارة الإسلامية كلها. وعلى الرغم مما في هذه الدعوى من جرأة وفي هذا الموقف من تهجم، فإنا نجد بين المسلمين من وقفوه. ودون أن نعرض لكل من خاضوا غمار هذا الموضوع في القرنين الثالث والرابع للهجرة نشير إلى رجلين: هما أحمد بن اسحق الراوندي ومحمد بن زكريا الرازي الطبيب. فأما الأول فشخصية غريبة للغاية، ولا يعرف بالدقة تاريخ مولده ولا وفاته، ويغلب على الظن أنه مات في أخريات القرن الثالث. وهو من أصل يهودي نشاً في راوند قرب أصبهان، ثم سكن بغداد واتصل بالمعتزلة، وكان من حذاقهم، وعده المرتضى بين طبقتهم الثامنة. إلا أنه لم يلبث أن خرج عليهم لأسباب لم يجلها التاريخ بعد، وحمل عليهم، بل وعلى الإسلام وتعاليمه المختلفة، حملة عنيفة. ولازم الملحدين واتصل بهم اتصالاً وثيقاً. ويظهر أنه أضحى دسيسة ضد المسلمين يدبر لهم المكائد ويُستأجر للطعن عليهم وينشر فيهم عناصر الزيغ والإلحاد. ولم يخف أمره على بعض اليهود المخلصين الذين حذروا المسلمين منه وقالوا لهم: ليفسدن عليكم هذا كتابكم كما أفسد أبوه التوراة علينا. وقد كتب كتباً كثيرة كلها